كنت سفيرا ناجحا وخذلني الصبر
كريم فرمان
ان مهمة السفير جد صعبة وليس كما يتصور البعض انها مجرد وظيفة علاقات عامة وتلبية دعوات وزيارات او حضور...
رغم أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فإن الأشقاء المصريين يسمونه "العيش" لاستحالة الحياة من دونه ربما، وربما لارتباطه بالملحمة البشرية التي تمتد للآلاف من الأعوام، ولا تزال ماثلة أمامنا اليوم في الأزمة الأوكرانية – الروسية.
كأن لا شيء تغير في تاريخ الخبز ماعدا بعض التفاصيل، فالقمح الذي غلا ثمنه في الماضي القديم لصعوبة طحنه قبل اكتشاف الآلات، عاد ليعاود طلوعه اليوم، لصعوبة نقله بسبب ما تسببه الحرب من حصار وسد للممرات.
وتزداد صولات التاريخ وجولاته مع الخبز تعقيدا بين الأزمة والانفراج، حتى أفرزت قاموسا كاملا من المصطلحات وفي شتى المجالات.. تبدأ بالبذور والأسمدة والمبيدات الزراعية والتخزين، ولا تنتهي عند الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي وصناديق الدعم ومعايير الجودة بل تتعداها إلى ثورات الخبز وما أدراك ما ثورات الخبز.
اتخذ الخبز رمزية كبيرة لدى الشعوب العربية، تجاوز فيها بعده الاستهلاكي اليومي ليمسي كناية عن الحد الأدنى من الحياة الكريمة لدى جميع الطبقات فدخل الميتافيزيقا، وأخذ مكانه في الماورائيات، إذ مازلنا نقسم به ونضعه على عيوننا عند طلب قسم اليمين ونقبّله ثلاث مرّات بين الشفاه والجبين ثمّ نضعه في الأعلى، وفي مكان نظيف عندما نجده على قارعة الطريق.
ساهم الخبز في سن القوانين والتشريعات منذ شريعة حمورابي في بابل القديمة، مرورا بالرومان الذين جعلوا من قرطاج مطمورة روما، ووصولا إلى أوروبا الحديثة وفرنسا التي قضى فيها “جان فالجان” بطل رواية “البؤساء” لفيكتور هوغو، عشرين عاما في السجن بسبب خبزة سرقها ثمّ كانت القوانين المدنية التي تقول في أدبياتها: إن من يسرق لأجل الأكل لا يعدّ جانيا أو مجرما، ولا تنطبق عليه أيّ عقوبة.
لماذا لا نعتبر الخبز مادة مثل غيرها من المواد، ولا نربطها بحضور الكرامة أو غيابها لا سمح الله، ذلك أن كل ما يتخذه الإنسان محورا لحياته، سينغص عليه حياته بالتأكيد
كان الخبز ولا يزال وقود الثورات ومحرّكها عبر التاريخ، وبصرف النظر عن نوعية المرق الذي ينقع فيه لدى المسحوقين والكافيار أو العسل الذي يطلى فوقه لدى المترفين، أي أن الأغنياء يشاركون الفقراء اقتناء الخبز ومشتقاته، ويستفيدون من صناديق الدعم التي بعثت لحماية ذوي الدخل المحدود.
ويُعد هذا الأمر مسـألة شديدة الحساسية والتعقيد في بلد مثل تونس مثلا، إذ يواجه مهد ثورات الخبز عام 1984 معضلة في كيفية رفع الدعم عن الحبوب ومشتقاتها التي يمكن أن تواجه ثورة مدوية واحتجاجات عنيفة من طرف النقابيين، في حين تباع قطعة الخبز بأقل من 10 سنت من الدولار.
وهكذا يقف رفع الدعم عن الخبز وغيره من مشتقات الحبوب حاجزا أمام الإصلاحات الضريبية وغيرها التي تنوي الدولة تحقيقها، ويتسبب في تلكؤ صندوق النقد الدولي في تقديم المساعدات، لا بل يزيد في ضغوطاته على الدولة الواقعة بين سندان الممانعة النقابية والشعبية من جهة، ومطالب الجهات الدولية وتضخم الديون من جهة أخرى.
ويشكل هذا البلد المعروف تاريخيا باتساع أراضيه الزراعية وجودة إنتاجه من الحبوب التي كان بإمكانها أن تقترب من الاكتفاء الذاتي لولا أسباب عديدة ومتشعبة من بينها الثقافة الغذائية المعتمدة أساسا على الخبز، حتى أن ما يشتريه المواطن العادي من الخبز يعادل ما يستهلكه مطعم كامل في أميركا أو كندا.
والأدهى من ذلك أن الخبز في تونس يرمى في القمامة أو يذهب علفا للحيوان في أحسن حالاته، ومع ذلك، تتجنب السلطة منذ سنوات زيادة السعر ما دفع المنتجين للتصرف تلقائيا بخفض الوزن والتوفير في بقية المكونات.. وهو ما أثّر على الجودة بشكل كبير في بلد عُرف بمهارة فرانيه الذين حصدوا كبريات الجوائز العالمية وظلوا مزودي قصر الإليزيه بالخبر طيلة سنوات عديدة.
ليست مسألة غياب إتقان إذن ـ ونحن من ابتدع مثل “أعط الخبّاز خبزه حتى وإن أحرق نصفه” ـ وإنما نوع من “التحايل المشروع” الذي أوصلت إليه فوبيا رفع الدعم والزيادة في السعر لدى الدولة “الوصية عن خبز شعبها ” كما يعرفها البسطاء من المواطنين.
الآن، والأزمة على أشدها داخل البلاد العربية وخارجها، لماذا لا تشجعنا هذه الظروف الصعبة على حل عقدة الخبز مرة واحدة وإلى الأبد، وذلك انطلاقا من مقولة “الحاجة أمّ الاختراع”.
لماذا لا نعتبر الخبز مادة مثل غيرها من المواد، ولا نربطها بحضور الكرامة أو غيابها لا سمح الله، ذلك أن كل ما يتخذه الإنسان محورا لحياته، سينغص عليه حياته بالتأكيد.
الخبز أخذ قيمته الاعتبارية منذ سنوات المجاعة والكوارث الطبيعية، وظل يعتنق رمزيته لدى العرب، تماما مثل السمك لدى اليابانيين، والموز لدى الصوماليين، والشاي لدى السيلانيين، والقهوة لدى البرازيليين، والحرير لدى الصينيين، والزهور لدى الهولنديين.. وحتى التمر الذي كان يلقب بـ”كسرة الصحراء” لدى قدماء العرب.
الآن، وفي أثناء الأزمة الغذائية التي تسببت فيها روسيا بعد غزوها لأوكرانيا بلاد القمح، هل فكرت الدولة الروسية في مواطنها فافيلوف، ورفاقه الذين أنشأوا بنكا لحفظ أنواع النباتات حتى إذا تعرض العالم إلى كارثة طبيعية أو نووية، يمكن لمن يأتي بعد ذلك أن يستمر في الحياة.
وتعرضت مدينة ليننغراد (بطرسبورغ) لحصار في الحرب العالمية الثانية دام 28 شهرا، لكن العلماء ماتوا جوعا ولم يأكلوا تلك الحبوب ليحافظوا على حياة من سوف يأتي بعدهم.