كنت سفيرا ناجحا وخذلني الصبر
كريم فرمان
ان مهمة السفير جد صعبة وليس كما يتصور البعض انها مجرد وظيفة علاقات عامة وتلبية دعوات وزيارات او حضور...
في الليل يتمشَّى وحيداً في مكتبِه الفسيح. لم تأتِ الطعنة من رفاقه في الحزب حيث لا يجرؤ أحد على رفع سبابتِه. ولم يتمردْ أحدٌ من الجنرالات الذين زيَّن صدورَهم بالأوسمة والميداليات فهم يعرفون الثمن. ألد الأعداء سوء الحظ. أنْ تأتيَك الضربةُ من حيث لا تتوقع. وأنْ يكونَ عدوُّك «شيطاناً» مجهولاً بلا عنوان معروف. لا جدوى من تعبئة الحزب ضده أو إطلاق الجيش الجرار في وجهه.
كان كل شيء مستتباً. و«الحلم الصيني» يتقدم وفق الخطة المرسومة وبدقة ساعة سويسرية. نجا من الامتحانات الأخيرة. لم يسمح لاضطرابات هونغ كونغ باستدراجه إلى قرار غاضب. يخسر الملاكم الكبير إذا امتحن في الحلبات الصغيرة. نجا من امتحان آخر. أدرك أنَّ دونالد ترمب لاعب يصعب التكهنات بنقلته المقبلة على رقعة العلاقات الثنائية. قلَّبَ الأمرَ على أوجهه ومعه احتمال بقاء ترمب في البيت الأبيض واختار تفادي الحرب التجارية. ليس مهماً ما يجري على الطريق. المهم ما يحدث في نهايتها.
كل شيء كان مستتباً. الصينيون يعدون أنفسهم للعيش طويلاً في ظله. في 2018 شطبت النصوص التي لا تسمح للرئيس بأكثر من ولايتين. وهذا يعني أن ترمب سيغادر قبله والأمر نفسه بالنسبة إلى فلاديمير بوتين. لم يبخل عليه الحزب بالدعم والتكريم. فكره صار جزءاً من دستور الحزب وهو ما لم يحظَ به أحد من ورثة ماو تسي تونغ. تكريم دينغ هسياو بينغ جاء بعد وفاته.
إطلالاته الخارجية كرَّست له صورة استثنائية. أبرز الدوريات التي كانت معجبة بقوة بوتين أحالته في السنوات الأخيرة إلى المرتبة الثانية وطوَّبت الزعيم الصيني في موقع «الرجل الأقوى في العالم». القوة والمسؤولية ظهرتا في كلماته في منتدى «دافوس» وخارجه، خصوصاً حين تولَّى الزعيم الشيوعي الدفاع عن العولمة والتدفق الحر للسلع في وجه دعاة الإجراءات الحمائية وبناء الجدران. وفي الوقت نفسه، تابعت «مبادرة الحزام والطريق» اختراقاتها موقظة ذكريات طريق الحرير، لكن محمولة هذه المرة على قطار «هواوي» و«علي بابا» ونجاحات تجارية وتكنولوجية.
يتمشَّى وحيداً في مكتبه. أبلغ شعبه والعالم أنَّ بلاده قادرة على مواجهة هذه الأزمة غير المسبوقة. تم استنفار كل شيء. الجيش والحزب والكوادر الطبية والمختبرات والعلماء. لكن ماذا سيحدث لو تفشَّى الوباء مثلاً في شنغهاي المدينة التي تضم 25 مليون نسمة مع ما تعنيه لسكانها وللعالم؟ لا يكفي بالتأكيد إظهار القدرة على بناء مستشفى ضخم في عشرة أيام.
آلمته تقاريرُ لم يكن يتوقع أن تزورَ مكتبه. ووهان بشوارعها الخالية وسكانها المذعورين في منازلهم. أعداد الوفيات اليومية وأخبار ظهور فيروس «كورونا» في 30 دولة. قيام دول كثيرة بإجلاء رعاياها ومناشدة مواطنيها عدم زيارة الصين. صور ملايين الأشخاص يرتدون الكمامات حتى وصل الأمر بمجلة «تايم» إلى وضعه مع كمامته على غلافها الأخير. وثمة مشاهد أكثر إيلاماً. ابتعاد الركاب في عواصم قريبة أو بعيدة عن أي صيني يستقل القطار. وصور المطاعم الصينية فارغة من الزبائن.
أمرٌ آخرُ يقلق شي هو السؤال الذي راح يتردَّدُ في بعض الدوائر الغربية عما إذا أخطأت الدول حين وافقت عملياً على أن تتحوَّلَ الصين إلى «مصنع العالم»، وبحيث يؤدي أي إغلاق للمصانع فيها إلى نقص في سلع أساسية يحتاجها الآخرون؟ سؤال آخر ومفاده هل أخطأت أوروبا حين سلَّمت للصين بدور «صيدلية العالم» كونها تنتج أدوية أو مواد ضرورية لصناعة أدوية يستخدمها العالم يومياً وبكثرة؟ الأمر لا يتعلق فقط بالإلكترونيات والسيارات والأنسجة. إنه يشمل لائحة طويلة يؤدي أي انتكاس للوضع الصيني إلى انتكاس عمليات إنتاجها أو تسليمها.
أزعجته التعليقات الغاضبة التي ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي بعد وفاة طبيب العيون لي وين ليانغ، الذي كان أول من حذَّر من انتشار الفيروس، وكان الثمن تعرضه للتأنيب من الحزب والشرطة وإدارة المستشفيات. وشاءت الصدفة أن يدفع الطبيب حياتَه ثمناً لإصابته، ما أعطاه لدى المواطنين العاديين صورة البطل. وفي مناخات الذعر العام يمكن العثور دائماً على أصحاب النوايا الخبيثة الذين يبحثون عن فرصة لتحويل فيروس مثل «كورونا» إلى فيروس سياسي يطرح سؤال أهليةِ النظام وكفاءته ومدى اهتمامه بصحة الناس.
عبارات الغضب الداخلية لا تثير قلقَه حتى الآن. وسائل التواصل الاجتماعي تخضع، كسائر المواطنين، لرقابة صارمة تضمن الشطب السريع لأي عبارة تشكك في جدارة النظام وحرصه. يمكن أيضاً امتصاص غضب الناس بالتضحية بعدد من المسؤولين وتحميلهم مسؤولية إضاعة ثلاثة أسابيع كان يجب التحرك خلالها لاحتواء الفيروس قبل استفحاله.
الامتحان الأصعب هو في الخارج. ألحقَ «كورونا» أضراراً فادحة بصورة النظام الصيني. انطلاقاً من مشكلة صحية تمَّ وضع النظام على المشرحة في أكثر من عاصمة. أخطر هذه الأسئلة هو ما إذا كان يحق للعالم أن يتركَ نفسه تابعاً لـ«المصنع الصيني»، أم لا، خصوصاً بعدما أظهر الحدث الأخير مدى الترابط بين أحوال أحياء «القرية الكونية» ومدى تداخل المصائر بين الدول القريبة والبعيدة، وهل تستنتج بعض الدول ضرورة التنويع بدل الاعتماد على مركز واحد تقريباً، خصوصاً إذا كان هذا المركز محكوماً بآلة حزبية ودعائية قادرة على إخضاع الوقائع والأرقام لمعالجات سرية حرصاً على صورة النظام؟
سواء أكان مروجُ الفيروس الخفاشَ أم آكلَ النمل أم غيرهما، فإنَّ الأكيد أن التنين الصيني أصيب بضربة قوية ومكلفة. ألد الأعداء سوء الحظ. لا يمكن حتى الساعة ضبط حدود الخسائر. ولا يمكن التكهن بما ألحقته المأساة بصورة السيد الرئيس ونظامه. وفي مكتبه يتذكر شي جيداً ما قاله وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو خلال الأزمة، حين اعتبر أنَّ الحزب الشيوعي الصيني هو الخطر الأكبر على العالم، لأنَّه يحاول تحت قيادة شي فرض قيم مناقضة لقيم الديمقراطية الغربية.
ثلاثة رجال في «نادي الأقوياء». نجا الأول من العزل وانطلق يطالب بولاية ثانية تدعمه أرقام الاقتصاد. ويدير الثاني أصعب علمية تعايش بين الجيوش والحروب على الأرض السورية. وينهمك الثالث «الرجل الأقوى في العالم» في محاولة منع تحول «كورونا» إلى فيروس سياسي يأكل من رصيده ومن صورة بلاده واقتصادها في العالم.