انتصارات العقلانية: السعودية تعود بحذر ومسؤولية

 

قدر البشرية مواجهة التحديات وتجاوزها من خلال العلم والمعرفة، التي ساهمت في تغيير الوعي منذ آلاف السنوات، وعلى الرغم من قوة العلم والمعرفة والتفكير النقدي والعقلانية البحثية، إلا أنها لا يمكن أن تشبع نهم الإنسان في صراعه بين القيم والغرائز، وتطور مسيرته على الأرض، هذا النهم والحاجة للخلاص يسعى فيه كل شخص إلى لغزه الخاص وإجابته المستقلة.
في التحديات والأزمات الكبرى بكل أنواعها يستطيع البشر مواجهتها بأدوات العلم والفلسفة والتوافق بين الفاعلين الأساسيين، لكن هذه الأدوات وما تنتجه من أفكار ومحتويات ستظل وفق العلاقات بين البشر، هي منتجات نخبة بسبب شروط إنتاجها واستغلالها والنزاع على تحويلها إلى رأس مال سلطوي.
التجارب البشرية والصراعات لا يمكن أن تكشف عن أزمة غياب التفكير النقدي، لكن الوباء العام الذي يساوي بين البشر يفعل ذلك لأنه يساوي بين الجميع، حيث الكل ضحية متوقعة للإصابة حينها لا يهم منشأ الوباء أو مسبباته، إلا في الجوانب القانونية والعلاقات بين الدول.
في أزمة جائحة «كورونا»، منذ اللحظة الأولى، ولأول مرة في التاريخ الحديث، وبسبب دافع الصدمة، تم اكتشاف الخريطة الجينية للفيروس بشكل مذهل، وحتى الآن هناك الآلاف من الدراسات حول الفيروس التاجي (SARS - COV - 2) والأعراض والتجارب السريرية الناتجة والمسببة لـ«COVID - 19».
بينما يغرق الباحثون في المعامل لإنتاج وتطوير العلاجات الممكنة، ومحاولات تطوير اللقاح المدفوعة، طبعاً بنهم شركات الأدوية والدعم من المنظمات غير الربحية والتبرعات، يغرق آخرون في محاولة التقليل من العلم والاستخفاف به، وإنتاج الخرافة والوهم، لكن بأساليب متذاكية تلعب على العواطف والمشاعر وهشاشة النفس البشرية متى ما أصابها الذعر.
في الوقت ذاته، لأن آلية عمل العلم في الأوبئة ألغامضة، وفي ظل حالة التسييس في ردة الفعل الأولى تجاه الوباء من التشكيك إلى الصدمة في ضعف البنية التحتية للقطاع الصحي، تدخلت علوم أخرى لا تقل أهمية عن الأبحاث البيولوجية والطبية، وهي العلوم الإنسانية التي تتقاطع فيها علم الأوبئة مع إدارة الحشود، والسيطرة على الانتشار في محاولة لإبطاء وانتشار الوباء، أيضاً هذه الدراسات المثيرة للانتباه أصبحت أكثر تطوراً وإذهالاً مع وجود البيانات.
لو قارنا الحالة البشرية الآن قبل مئات السنين في التعامل مع الجوائح، لأدركنا الفارق العظيم للتقدم البشري في العلوم، خصوصاً مع التقدم الهائل في البيانات التحدي الأكبر القادم أمام الحكومات، في مقابل سلطة «وادي السيليكون» المتعاظمة قبل 100 عام فقط، خلال جائحة إنفلونزا عام 1918، قتل الوباء أكثر من 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم.
السبب الأساسي في فشل التعامل مع الجوائح تاريخياً هو علمي، وليس في التلقي النفسي، وإدارة الحشود أو نفوذ السلطة، فشل جماعي عالمي، لا علاج لا لقاح أو تدابير وقائية تخفف من حجم الضحايا، ووجود حروب عالمية تعاظم فيها الدور الحربي.
الفارق الكبير بين التلقي للوباء تاريخياً ولحظة «كورونا» الفاصلة، نقطة لصالح العلم والبيانات اليوم، رغم عدد الضحايا المؤلم، وقسوة تبعات الجائحة على كل المستويات السابقة أو المقبلة، استطاع العلم التعامل مع التفاصيل الصغيرة بسرعة هائلة، وإن بنتائج نسبية وصراعات سياسية.
وبسبب سقف تدفق المعلومات الهائل، للأسف الفشل على مستوى التلقي الواعي لجائحة «كورونا» اليوم كان أسوأ، بسبب تعاظم نظريات المؤامرة ومرتزقة اللعب على العواطف، والاستغلال الربحي من الأزمات. الإنسانية اليوم تواجه التدفق المعلوماتي الرقمي المضلل والربحي الذي يقدم المحتوى التسويقي سريع الشيوع على المحتوى العلمي البارد والمتغيّر والنسبي واللايقيني.
تلقي جائحة «كورونا» حزمة معقدة من الدوافع والتحيّزات والعواطف المتناقضة والهشاشة البشرية في التحمل، أو محاولة تسويق الألم من شخصيات كاريزمية وإعلامية منتفعة أو مؤدلجة.
المحتوى الضار شديد الشيوع الذي تفسره نظرية الفاكهة المحرمة الشهيرة، في تحليل ظواهر مواقع التواصل الاجتماعي، تكاثرت بسرعة لا تقل عن سرعة انتشار الفيروس. أشخاص وجماعات ومعسكرات غير علمية تفاوتت رؤاها من الإنكار إلى المؤامرة إلى إعلان علاجات منزلية بديلة فعالة، مطلقين ساق الوهم في سباق اللامسؤولية، لكن لا أحد شارك في أي نتائج لتجارب سريرية حقيقية!
قصة الطب البديل معقدة وطويلة تحتاج إلى طرح مستقل. المواد العضوية والنباتات والعناصر الطبيعية مصدر مهم وفعال في العلاج، لكن ضمن شروط إنتاج معقدة وطويلة الأمد، وغالبها يفتقر إلى الحقائق الأولية للاختبار العلمي، ويمكن أن يكون جدل فيروس الإيدز الأسهل في بداياته المبكرة، يشبه جدل «كورونا» من حيث اليأس واللجوء إلى البدائل الوهمية.
تجليات تلقي وباء «كورونا» العلاجية كانت هزلية تقترب من حدود الكوميديا، في ظل المشاهد المؤلمة للضحايا، وارتفاع الأرقام وحالات الهلع، وارتباك المؤسسات الدولية في البداية، بسبب الضغط على القطاع الصحي وبنيته التحتية، التي انكشفت في أعرق الدول الأوروبية، ومن بين الدول الصادمة كانت سويسراً نظراً للإمكانات وأعداد السكان. ومن تلك التجليات الإقبال على أنواع معينة من الأطعمة، أو حتى تجارب الوخز بالإبر، وبالطبع المحتوى الروحاني الانتهازي، رغم أن الخطاب الديني التقليدي كان مسؤولاً لأسباب كثيرة منها علاقته بالسلطة، بخلاف الخطابات الروحانية المنفلتة من المساءلة النقدية، فضلاً عن ممارستها دور الأناركية الناعمة.
التلقي العلاجي البديل نشط خلال صدمة القطاعات البحثية ومراكز ومختبرات العلم، إلى الحد الذي يشبه وصفات مقاومة الطاعون الأسود في أوروبا، كما أن استعجال الضغط العالمي غير المسبوق على السلطات والمنظمات الدولية وشركات الأدوية والخسائر الاقتصادية، ساهم في الاستعجال في التوصية بعلاجات تنتمي إلى الحقل العلمي الدوائي مثل «هيدروكلوروكين» و«أزيثروميسين».
كما ساهم التسييس، ومحاولة اقتناص الفرص في الوباء إلى محاولات غير مسبوقة، في الضغط غير المسؤول للإسراع بالتوصية بأي علاج، خصوصاً في الولايات المتحدة، وبشكل شعبوي، جسدته تغريدات ترمب الفردية الذي كان يوصي في سابقة مثيرة بأدوية بعينها.
شعبوية التلقي السياسي، وانفصال الخبرات العلمية، وما ينشر من أبحاث عميقة وسريرية عبر شبكات البحث العلمي، يمكن العثور عليها بسهولة ضمن أي منصة علمية طبية، وبين الإعلام التقليدي والإعلام الجديد، ساهم في تحول الشعبوية السياسية، وظهور مرتزقة العلاجات البديلة إلى شعبوية ضد الطب ونخبويته، التي كانت ينظر إليها بتقديس سابقاً، مع أن المسألة لا تستدعي تقديساً أو تدنيساً بقدر تثمين التجربة البشرية والخبرات الهائلة في القطاعات الطبية والعلمية، التي يعي أفرادها، قبل غيرهم، نواقص العلم وقسوته وتحرّكه البطيء المزعج للإنسان المذعور.
في الطب والأبحاث السريرية ومناقشة النتائج والبيانات المرسلة من المستشفيات، هناك نقاشات ومؤتمرات طويلة ومضنية تتجاوز جغرافيا المكان بين المجتمع الطبي، لمحاولة تقييم الوضع باستمرار وعلى مدار الساعة، وهي قائمة على أداة علمية كجزء من الفلسفة التجريبية للعلم الحديث تعتمد على ثنائية المحاولة والخطأ والاستفادة منهما (Trial & Error)، وبسبب ضغط المنظمات، ثم الحكومات، ثم الجماهير المضطربة، في تلقي الأوبئة الغامضة، خصوصاً وباء كورونا التجربة الجديدة على أكثر من مستوى، ظهرت حالة التجريبية إلى العلن، من خلال الموقف، ثم التراجع عنه «الكمامة/ الأسطح» على سبيل المثال.
تبعات الفلسفة التجريبية للعلوم (الخطأ/ الصواب)، المحاولات المتكررة والنتائج المختلفة والمعلومات المتجددة، ليست معبرة إلا عن طبيعة العلم والأبحاث، وما يفترضه من الشك وليس اليقين، ولا تعبر عن فشل منهجي، فضلاً عن تقصير شخصي أو مؤامرات خفيّة. هذا المستوى من الاستثمار في العلم يأتي لاحقاً في عمليات تالية، سواء اقتصادية أو سياسية أو احتكارية.
في الأوبئة والكوارث الصحية الكبرى صيرورة البحث والتجربة والبحث مدفوعة بضغوطات سياسية واقتصادية هائلة مباشرة، أو من خلال المنظمات الدولية، أو حتى مراكز الأبحاث المستقلة في عملها، حيث لا تعمل بوتيرة لا تعكس الوضع الاعتيادي من البحث المتأني، والعمل على العينات المختبرية، والتواصل بين شبكات البحث واستخلاص النتائج بشكل هادئ في الأزمات. مستوى الاستجابة يشبه مستوى الاستجابة الحربية تماماً، القابلة للأخطاء لا علاقة لها بالمنهج أو النظرية، وإنما بتفاصيل التطبيق أخطاء برمجية، أخطاء في المعلومات أو التشخيص، وهذه الأخطاء كما هو الحال في الأخطاء الطبية تفترض التصحيح، وليس التجاوز والعودة إلى أحضان الخرافة وتجار اليقين الزائف.
السعودية، وبشجاعة كبيرة وقاسية، تحملت المسؤولية منذ أول ظهور الجائحة لأسباب كثيرة؛ أهمها إيمانها بالمواطن، وأنه مثلما ظل الاستثمار الحقيقي في بناء مسيرتها، فهو حجر الأساس الأول في بنيان التماسك في مواجهة الأزمات، لا سيما أن جائحة مثل «كورونا» ليست نتيجة تقصير أو إهمال، كما أنها في المقام الأول تمس أمن المواطنين وسلامتهم، قبل أن تؤثر على طرائق عيشهم والجوانب الاقتصادية الأخرى، حتى الأمنية منها. السعودية تصرفت بحكمة بالغة، وواجهت هذا الوباء بإجراءات حاسمة وناجحة، خصوصاً ونحن نتحدث عن دولة بحجم جغرافية السعودية، وكونها محط زيارة الملايين سنوياً.

مقالات الكاتب