الوحدة الغائبة..

فلسطين آخر هموم "حماس"!

في مثل هذه الأّيّام من العام 2007، سيطرت حركة “حماس” على قطاع غزّة. كرّست بالحديد والنار وضعا فلسطينيا جديدا لا علاقة له بالماضي. الأهمّ من ذلك كلّه أن سيطرة “حماس” على القطاع كشفت حقيقة ما يتطلّع إليه تنظيم مثل تنظيم الإخوان المسلمين يمتلك شبقا ليس بعده شبق إلى ممارسة السلطة.

لا يأبه الإخوان بالنتائج المترتّبة على أعمالهم وممارساتهم. كلّ ما يريدونه هو السلطة. يدلّ على ذلك حجم الضرر الذي لحق بقضيّة فلسطين منذ تأسيس “حماس” في العام 1987. ففي الطريق إلى الاستيلاء على قطاع غزّة، قضت “حماس” على المشروع الوطني الفلسطيني وصولا إلى وضع غزّة تحت الحصار خدمة لمصلحة ذاتية ومصلحة إسرائيلية في الوقت ذاته.

تبدو كلّ الألاعيب والمناورات مسموحا بها بين إسرائيل و”حماس” بعدما تبيّن أن هناك تفاهمات كثيرة من تحت الطاولة بينهما وبعدما تبيّن خصوصا أن سيطرة “حماس” على قطاع غزّة وإقامة إمارة إسلامية فيه هدف إسرائيلي بحدّ ذاته.

تتكشّف فصول طريق الوصول إلى هذا الهدف الواحد بعد الآخر من خلال تحويل غزّة إلى سجن في الهواء الطلق لمئات آلاف الفلسطينيين من جهة وتحوّل صواريخ “حماس” إلى الوجه الذي تقدّم به القضيّة الفلسطينية نفسها، وهي قضية شعب مظلوم يطالب بحقوقه، من جهة أخرى.

حققت “حماس” نجاحا منقطع النظير بتقديمها الخدمة الأهمّ لإسرائيل، أي تحويل الجلّاد إلى ضحيّة والضحية، التي هي الشعب الفلسطيني، إلى جلّاد. الأهمّ من ذلك كلّه أنّها كرّست الانقسام الفلسطيني كاشفة في الوقت ذاته العجز الفلسطيني عن إدارة دولة بطريقة حضارية متصالحة مع نفسها ومحيطها.

تكفي الشعارات التي ترفعها “حماس” كي لا تعود إسرائيل في حاجة إلى حملات إعلامية ودعائية في سائر أنحاء العالم، خصوصا في الولايات المتّحدة وأوروبا.

كان يوم سيطرة “حماس” على غزّة بوحشية ليس بعدها وحشية شملت إلقاء أعضاء في “فتح” من سطوح البنايات، بداية النهاية لمنظمة التحرير الفلسطينية. باتت المنظمة التي فاوضت من أجل الوصول إلى اتفاق أوسلو، بحسناته الكثيرة وسيئاته الكثيرة أيضا، في حيرة من أمرها. فقدت أي قدرة على المبادرة وعلى أن تكون مرجعية السلطة الوطنية الفلسطينية التي لم يبق منها شيء يذكر.

لا يمكن تجاهل الأطماع الإسرائيلية في الضفة الغربية ولا يمكن المرور مرور الكرام على عقم السلطة الوطنية الفلسطينية التي قيّدت نفسها بدور أمني لا تستطيع التملّص منه. لكنّ الثابت أن “حماس” لعبت الدور المطلوب منها لإيصال الوضع الفلسطيني إلى ما وصل إليه.

في ضوء تشكيل “حكومة الطوارئ” الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتانياهو، لم يعد من سؤال سوى هل ستضمّ إسرائيل قريبا أجزاء جديدة من الضفّة الغربية كما وعد “بيبي” في البرنامج الانتخابي لليكود، أم سيحصل تأجيل للخطوة؟

المخيف أنّ أيّ تأجيل للضمّ، الذي سيعني خلق واقع جديد في الضفّة الغربية، سيعود إلى أسباب غير فلسطينية. هناك رأي أميركي عبرت عنه الإدارة عبر وزير الخارجية مايك بومبيو الذي نصح الحكومة الإسرائيلية بالتريث في ضوء الأحداث الكبيرة والتحولات التي تشهدها المنطقة. هناك أيضا خلافات في الرأي داخل الحكومة الإسرائيلية نفسها. في صلب هذه الخلافات، التي لا تمسّ فكرة الضمّ نفسها، تفاصيل معيّنة يصرّ عليها وزير الدفاع بني غانتس المدعوم من وزير الخارجية غابي أشكنازي.

يضاف إلى ذلك كلّه، أن على إسرائيل أن تأخذ في الاعتبار الأجواء العربية عموما وقنوات الاتصال التي فتحت معها أخيرا في ضوء السياسة العدوانية التي يتبعها النظام الإيراني في غير مكان. ما يؤكّد التغيير في الأجواء العربية أن جامعة الدول العربية اكتفت أخيرا بالتحدّث عن “التنمر” الذي تمارسه إيران وتركيا وإثيوبيا…

سيكون على إسرائيل أيضا مراعاة المخاوف الأردنية من تكريس احتلالها لجزء آخر من الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، ومنطقة غور الأردن. لم يمنع الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعاني منه المملكة الأردنية الهاشمية الملك عبدالله الثاني من بذل كلّ ما يستطيع عبر اتصالات أجراها مع أعضاء نافذين في الكونغرس من أجل الحدّ من أضرار التوجه الإسرائيلي. يهبّ الأردن مرّة أخرى إلى نجدة فلسطين وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بما في ذلك خيار قيام الدولة الفلسطينية “القابلة للحياة”.

ثمة حاجة في نهاية المطاف إلى المحافظة على حدّ أدنى من الاستقرار من أجل منع الفوضى الكاملة في منطقة تحوّل فيها الأردن إلى استثناء. الأكيد أن لدى الأردن مصلحة في مساعدة الفلسطينيين، لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح لماذا لا يساعد الفلسطينيون أنفسهم أيضا؟ لماذا هذا الإصرار لدى “حماس” على رفض التعلّم من تجارب الماضي القريب، بما في ذلك جريمة إرسال عشرات الشبان الفلسطينيين إلى خط الحدود بين القطاع وإسرائيل كي يقتل هؤلاء بكلّ دم بارد، بواسطة قنّاصة إسرائيليين، أو ليصبحوا من ذوي العاهات.

سبق للأردن أن أنقذ الفلسطينيين عندما اخرج الفدائيين من أراضيه في العام 1970. حدث ذلك قبل نصف قرن عندما أرادت الفصائل الفلسطينية إقامة دولة داخل الدولة في الأردن. أعاد الملك حسين، رحمه الله، القيادة الفلسطينية إلى جادة الصواب. ما يحدث الآن أنّه لا وجود لقيادة فلسطينية تمتلك حدّا أدنى من القدرة على المبادرة، فيما تعمل “حماس” كلّ ما تستطيع كي يتكرّس الانقسام الداخلي وكي تبقى غزّة سجنا لأهلها.

يستأهل الفلسطينيون أفضل بكثير من “حماس” ومن السلطة الوطنية القائمة حاليا. يستأهلون قبل كلّ شيء قيادة جديدة تضمّ شخصيات تفكّر جدّيا بما يمكن عمله وما لا يمكن عمله. مثل هذا التطور سيحصل يوما ما في الضفّة الغربية، بغض النظر عما ستفعله إسرائيل حيث حكومة لا اهتمام لديها بأي نوع بالسلام. سيبقى قطاع غزّة مشكلة كبيرة في ظلّ إصرار “حماس” على التحكّم بالقطاع. لا يوجد في “حماس” قيادي واحد يطرح على نفسه أسئلة في غاية البساطة.

من بين هذه الأسئلة هل يمكن تحرير فلسطين انطلاقا من غزّة؟ ما الفائدة من إطلاق صواريخ في اتجاه إسرائيل بعد انسحابها منها في آب – أغسطس 2005؟ لماذا كان ذلك الإصرار على تمكين إسرائيل من محاصرة غزّة؟ لماذا تقديم كلّ هذه الخدمات إلى إسرائيل كي تدّعي أن لا شريك فلسطينيا يمكن التفاوض معه؟

الجواب الوحيد عن هذه الأسئلة أنّ لا مجال لأي منطق مع الإخوان المسلمين. السلطة تعميهم. همّهم قطاع غزّة وإمارتهم الإسلامية… أمّا فلسطين، فإنّها تبقى آخر همومهم!

 

مقالات الكاتب