الماهية أصل سابق والهوية فرع لاحق

الماهية -ESSENCE   - تُعرّف الإنسان من حيث كينونته  الوجودية، اي تلك التي نشأ من رحمها أصلا، وبقي عليها فطرة، مدى ما عاش، أيا كانت معرفات هويته.

الهوية – IDENTITY – تُعرف المرء من حيث انتماءاته الخارجية، أي تلك التي بعضها ألحقت به من مجتمعه، والبعض الآخر اتخذها هو لنفسه.

الماهية مشتركة بين الناس حكماً، وتورد جواباً وجودياً على التساؤل: ما أنت، ما هو، وإذا كان التساؤل مثاراً من الذات: ما أنا.  الجواب هنا يأتي بمُعرّف واحد فحسب: أنا إنسان.

الهوية، بمُعرّفاتها المتعددة، تورَد جواباً انتمائياً إزاء التساؤل: من أنت، من هو، وإذا كان التساؤل مثارا من الذات: من أنا. الجواب هنا يأتي بمُعرّفات متعددة، يُصدّرها كل شخص بالمُعرف الذي يؤثره من بين سائر معرفات هويته. 

معظم الناس عبر العالم، في مجال معرفة الذات وتعريفها، يأتي تركيزهم على الهوية.  بتعبير أوسع: فهمهم لأنفسهم، وتعريف أنفسهم لغيرهم، وتعاملهم مع الآخرين، يأتي مُشكّلاً ومنطلقاً من المُعرّفات الانتمائية: مثلا: أنا عربي، لذا متمايز عن غير العربي، عُماني، لذا متمايز عن من هو من بلد آخر، مسلم، لذا متمايز عن غير المسلم، منتسب لمدرسة فكرية معينة او لحزب سياسي معين، أو لقبيلة معينة، لذا متمايز عن المنتسب لمدرسة فكرية مغايرة أو لحزب سياسي معارض، أو لقبيلة أخرى، وَهَلُمَّ جَرّاً. 

في المقابل، قلة من الناس، في مجال معرفة الذات، وتعريفها، والتعامل مع الآخر، يأتي تركيزهم على المُعرّف الوجودي المشترك بين الناس، أي الماهية،  وخلاصة التعريف هنا: أنا إنسان، وإنسانيتي سابقة على أي انتماء مضاف وتعلو عليه.

في التركيز على الماهية تتضاءل الفروقات الواردة في تعريف الهوية.  هنا، كأمر أول وأساس، يرى المرء الآخر، أيا كانت معرفات هوية الآخر، كمثل ما يرى نفسه: كائناً حياً واعياً يتماثل مع جميع أفراد جنسه من حيث الجسد، وملكة التفكير، ومن وراء ذلك، بل وبأهم من ذلك وألطف، من حيث الروح المودعة فيه، أو بالعبارة القرآنية، "المنفوخة" فيه من الذات الإلهية. 

بالجسد يتماثل البشر ما بينهم، وبيولوجياً يتماثلون معظما مع سائر الحيوان، بالأخص الحيوان الثديي. بملكة التفكير يتماثل البشر ما بينهم، لكن بتفاوت كبير في درجة الذكاء.   بملكة التفكير أيضا يتماثل البشر مع سائر الحيوان، لكن بتفاوت شاسع في نوعية  الوعي ومداه. 

بالروح وحدِها، بعد إذ نشأ بها بشراً سوياً عبر تطور مديد، يتمايز الإنسان عن سائر الحيوان. بالروح وحدِها، وليس بالجسد ولا بملكة التفكير، يتساوى الناس، ذكورا وإناثا في الكرامة، أي في القيمة الإنسانية التي تنبني عليها، أو يجب أن تنبني عليها، كافة الحقوق والاستحقاقات الحياتية  بين الناس على الإطلاق.

قديماً وحاضراً، التغافل عن وحدة الإنسانية المتمثلة في الماهية المشتركة تسبب، ولا يزال يتسبب، في معظم المشاكل المولدة للصراع في الحراك البشري. بالنتيجة، معظم مشاكل البشر، سياسيةٍ، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، وسواها لا تزال تنتج عن التركيز المفرط على تعددية معرفات الهوية الانتمائية والتجاهل لوحدة الماهية الوجودية. من هنا تستثار التفرقة بين الأمم، بل وضمن الأمة الواحدة. إجمالاً، التفرقة تنتج عن الاختلاف موطناً  أو عرقاً أو ديناً أو مذهباً أو منظوراً فكرياً أو سياسياً أو نسباً قبلياً. التفرقة تولد الخصام، والتخاصم، تراكمياً، يؤدي إلى احتراب.

إلى ماذا أرمي  بهذه المقدمة؟ 

أرمي إلى استلفات النظر إلى تراجع خطير أراه يحدث حثيثاً في الحال الإنساني عالمياً، نتيجة تزايد تشخص إنسان هذا العصر بتعددية معرفات هويته الانتمائية، مقابل تزايد تجاهله لوحدة ماهيته الوجودية. 

أنا إذ ألاحظ هذا السياق، في زمن تزايد التعداد البشري، مقترناً بتكاثف تواصل الأفراد والجماعات من مختلف الأمم على نطاق غير مسبوق، ومن ثم تكاثر الجدل بينهم بوسائل مبتكرة متعددة، فإنني أستشرف تصاعد وتيرة الصراع، في مختلف أشكاله، عبر العالم بأسره. 

في استطراد هذا السياق المعيق للنماء الحضاري، أرى صراعاتٍ متفاقمةً ما بين الأمم، أو ما بين الدول،  وتباعاً أرى تشظى الصراع  إلى ما بين فئات الأمة الواحدة، الوطن الواحد، الدين الواحد، المذهب الواحد، وهكذا ... مُثارا، في الأغلب الأعم بنوازع الأنانية والتعصب والتسييس والتحريض. 

كيف يكون الابتعاد عن هذا المسار المنهك؟ 

الابتعادَ يكون بالارتكاز عالمياً في ماهيتنا الواحدة الموحِدة والانطلاق منها في عموم التعامل ما بين الأفراد وما بين الأمم. بعبارة أخرى، أن يكون ارتكازنا في الماهية وعياً أقوى وأثبت وأعمق من ارتكازنا في هوياتنا الانتمائية، المتفرقة والمفرقة.

الابتعادَ يكون في إخضاع تعددية انتماءات الهوية، والتي هي مقتناة جميعها وليست أصيلة في الفطرة،  إخضاعها لوحدة الماهية، المؤصلة ذاتياً، بحيث لا ينفصم عنها المرء أينما حل أو ارتحل، وفي أيما بيئة وطنية، ثقافية، دينية أو مذهبية نشأ وترعرع. 

الابتعادَ يكون في التحول من منظور يحبسنا، أفراداً وفئات وأمماً، في قوالب تخاصم مستدام، ناتج عن التشبث المبالغ بتعددية الهوية الانتمائية، إلى منظور ينقل الجميع إلى ساحات تعايش رحب، قائم على الأصل المشترك، أصل الماهية الوجودية، أي التثبت في الإنسانية  كأمر أول وأساس.

إجمالا، الابتعاد أرى في تعميق إلإحساس بمشتركنا الإنساني: الانطلاق منه، والانضباط به في عموم مساحات التفاعل والتعامل، أيا كانت المشاكل المعترضة أو المتخيلة، وكيفما كان حراك الأحوال والظروف.

بذلك، على ما أرى، سوف نُمكّن من لجم استدامة الصراع الآخذ بالانتشار عالمياً، الباعث مراراً على العنف ... العنف المهلك من المدنيين الأبرياء أضعاف ما يهلك من المتحاربين،  العنف الذي يتلف ويشرد ويُهدر كرامة الإنسان، وفي ساعة هيجان هادر يدمر ما يكون قد عُمر حثيثا بمجهود عمر، كما يحدث في الحروب.

الصراع يصرف الطاقة الخلاقة في الإنسان عن الإعمار والإنماء، يفسد المناخ الاجتماعي ويسمم الحال النفسي، وبذلك يقعد الإنسانية عن التقدم حضارياً نحو الأوفى والأمثل. لذا لا خير أرى في نزوعات تستثير الصراع لأجل ما يسمى زيفا بالمصالح،  وهي في الحقيقة ليست بمصالح... إن هي إلا أطماع جامحة ورغبات طائشة.

من وجه آخر، بما رصدت من تفشي العنف عبر العالم في العقود الأخيرة، وبما وعيت بالأخص من تاريخ القرن العشرين بحروبه المدمرة المتكررة، لم أعد مطمئناً إلى العلم الحديث معزولا عن الانضباط الخلقي. العلم بمعنىscience   مُمكّن وليس بمرشد، بمعنى أنه قابل للتسخير مفعلا في تطبيقاته العملية Technology لخير كان أو شر.  لذا، ما لم يرتدف العلم باللازم الخلقي، الذي نعته الفيلسوف الألماني إيمانيوئل كانط باللازم الضروري  Categorical Imperative، فقد يغدو عامل هدم وإفساد أكثر منه عامل بناء وإصلاح.

كما أنني ما عدت مطمئناً اليوم، كما كنت مطمئناً بالأمس، إلى حداثة عشتها طويلا وثمنت معطاها كثيراً، حداثةٍ أرى أن قد شابها الصراع، وشانها العنف، وشوهتها نزعة المغالبة بالإثم والعدوان، فأضحت بقدر ما تيسر العيش تزيد الطيش، وبقدر ما تريح البدن ترهق الروح، وبقدر ما تعد بالسعادة تنتج الشقاء ... حداثةُ تغرر أكثر مما تبصر، فيتراجع في سياقها المتعجرف الحال الحضاري، وتهدر جراء جرفها الغاشم كرامة الإنسان. 

ما هي بنية رؤياي لماهية الإنسان الوجودية، تلك التي أدعو إلى الارتكاز فيها والانطلاق منها لأجل بتر مسلسل الصراع، لأجل تنشيط سياقات التعايش والتعاون، لأجل ربط مسار الإبداع الحداثي بطموح الارتقاء الحضاري، ولأجل اعتبار كل إرث الإنسانية إرث كل إنسان، ومعطى جميع الحضارات معيناً موحداً منه علمه ورشده. 

بنية رؤياي هي أن الإنسان في كينونته تشكل من جسد، وملكة تفكير intellect، وروح spirit or soul. الجسد شكلاً يتضاءل ويفنى، وملكة التفكير كجزء منه تتضاءل بتضاؤله وتفنى بفنائه. الروح، من حيث أنها طاقة محضة، لا تتضاءل ولا تفنى: هي، كألله الذي هو مصدرها، وكالمادة التي هي كنهها الذري، أزلية ابدية. 

خلال الحياة، تعالق تلازمي يسري بين الجسد وملكة التفكير: بمعنى كلما تلازم الجسد بهدي تفكير سديد، كلما صح وسلم، والعكس بالعكس. بمثل ذلك، تعالق تلازمي يسري بين ملكة التفكير والروح: بمعنى كلما تلازم الفكر بصفاء الروح، كلما صح وسلم، والعكس بالعكس.  

في كنهه الوجودي، الإنسان روح قبل أن يولد، وروح بعد أن يُتوفى. روح الإنسان من روح الله، سوى أن روح الإنسان جزء من كل، وروح الله كلّ مطلق. لذا كلما توثقت صلة الإنسان بالله: صلة المحدود بالمطلق، صلة المتكامل حثيثاً بالكامل أصلاً، صلة المستزيد من الخير بالمعين غير الناضب خيره، كلما تعرض وعياً، وسما خلقاً، وصفا نفساً، وارتقى في إنسانيته نحو الأوفى والأمثل دون سقف.

في المقابل، كلما ازداد الإنسان انحباساً في شراك الخصام والصراع، متعصبا لهوياته الانتمائية مفصولة عن وعيه لماهيته الوجودية، كلما انحدر في انسانيته، فإن استمر منحدراً، أخلد إلى الأرض وارتكس.

تلك هي بنية رؤياي التي أرى من خلالها لزومية إعلاء الإنسان وعيا ماهيته الوجودية فوق هوياته الانتمائية، إعلاء الأصل على الفرع، لكي يمُكّن من نظر أعرض أفقاً، ويُحفز على أداء أكثر نبلاً، ورشدا ورسوا في مكارم الأخلاق.       

في رؤياي أيضا أن ذلك هو الخليق بالإنسان أن يرسو فيه وينطلق منه في كل ما يفكر ويقول ويفعل، كونه استودع روحَا أزلية أبدية لأجل أن يسعى حثيثا على مسار حضاري حميد، مستدامٍ من جيل لجيل: مسارٍ مستصلح للنفس، وراعٍ الشأنَ الإنساني ككل، إذ أن بذلك، تلازميا، يرتهن تحقق الإنسانية بأمثل المتاح أمامها تساميا في المعنى وتساميا في الذات.  على أن تلك مكنة كامنة تنتظر الظهور بوعي مستنير: وعيِ مبصرٍ بالإيمان، مسندٍ بالمعرفة، مرشدٍ بالحكمة، ومنضبطٍ  بضوابط الخلق الكريم. 

من بصائر القرآن المجيد بصيرة يجدر وعيها صميماً بهدا الصدد: (أن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم).  نقطة الاستيعاب هنا: أن منشأ التغيير في الحال الإنساني، سلباً أو إيجاباً، هو الإنسان نفسه: بمعنى أن ساحة التغيير المنشود لا تكون ابتداء في عمارة الأرض أو الترفه في المعاش بقدر ما تكون، كأمر أول وأساس، في استصلاح النفس، وهو السعي المستدام الذي عُرّف في الحكمة المتعالية الموروثة من سائر الديانات والمدارس الفكرية، بالجهاد الأكبر، باعتبار أن باستصلاح النفس يُستصلح المحيط، لكن العكس لا يكون ضرورة بصحيح.

بصىيرة قرآنية أخرى: من أهم وأنجع ما تستصلح به النفس، فتصلح بذلك الحياة وتطيب، هو الاستقرار في الإيمان ... الإيمان المثبت لنا في الصدق، المؤيد لنا بالصبر، الحاض  لنا على صالح العمل، المعين لنا في الشدائد ... الإيمان الجانح بنا للسلم، والدافع لنا أفراداً وأمماً للارتقاء طرداً على السلم الحضاري. مثل هذا الإيمان لا ينحصر تحققه في أهل أيما ملة بعينها، وإنما هو حال وجداني يتنامى في أيما إنسان تصفو نفسه، يحسن خلقه،  يصدق قوله، ويصلح عمله، أيا كانت هوياته الانتمائية وأيا كانت معتقداته. 

خلاصة وختاما:  أتمنى أن ينبعث مثل هذا التوجه الحضاري في الوعي الجمعي الإنساني، فتصحح كل أمة وضعها وتقومَ مسارها، متأصلةً وعيا في ماهيتها الوجودية المشتركة بينها وسائر الأمم. ردفا بذلك أتمنى أن تزداد كل أمة سعة في المعرفة العلمية، وتحلياً بمكارم الأخلاق، وبذا كله، تغدو مزدهرةً في ذاتها، منيرة الدرب لغيرها، متعاونة عالميا في كل ما يصلح الإنسان ويسعده وينميه، وحاضنةِ بالحسنى جميع الثقافات والأديان والمذاهب والمواطن والأعراق.   

أتمنى أيضا أن يكون لكل منا دوراً في تفعيل هذا التوجه القائم على تأصل ثابت إنسانياً، وتفرع متسام ثقافياً، لأجل تحقق حداثي حضاري، قومي إنساني، وطني عالمي، في ترادف واتساق... هكذا إلى أن تحين الآجال، فيرتحل كل منا برضا واطمئنان، مغطبطاً أنه ساهم، ولو بأقل القليل،  في جعل تجربة العيش على هذا الكوكب، مع تعقيداتها، أيسر وأطيب وأثرى للآ تية من الأجيال.***

        *صادق جواد سليمان: كاتب ومفكر ودبلوماسي سابق مقيم في مسقط – عُمان