كنت سفيرا ناجحا وخذلني الصبر
كريم فرمان
ان مهمة السفير جد صعبة وليس كما يتصور البعض انها مجرد وظيفة علاقات عامة وتلبية دعوات وزيارات او حضور...
من الصعب التكهّن بما يمكن أن يستقرّ عليه الوضع في السودان حيث يبدو أكثر من واضح أن كفّة العسكر باتت هي الراجحة على الرغم من وجود مجتمع مدني فاعل. استطاع هذا المجتمع الصمود طوال أشهر في مواجهة نظام عمر حسن البشير من أجل إسقاطه والتخلّص من تخلّف الإخوان المسلمين الذين يمثّلهم. سقط النظام بالفعل في الشارع الذي لا يزال مستنفرا. لكنّ الفضل الآخر والحاسم في هذا السقوط كان لكبار الضباط على رأسهم عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي). هؤلاء “أقنعوا” البشير بطريقتهم الخاصة بأنّ عليه الرحيل وأنّ لا أمل له بأن يتولّوا حماية نظامه الإخونجي على الرغم من أنّه متغلغل في عمق المؤسسة العسكريّة والأجهزة الأمنيّة.
ثمة حاجة إلى توازن جديد بين المدنيين والعسكر، توازن يؤمّن نوعا من الاستقرار يبدو السودان في أشدّ الحاجة إليه. في النهاية، تبيّن مع مرور الوقت أنّ المدنيين لا يستطيعون الحكم من دون العسكر الذين وعدوا مرّة تلو الأخرى بفترة انتقاليّة تجري بعدها انتخابات. من يؤمّن مثل هذا التوازن الجديد الذي يمثل فيه عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء الذي أقاله العسكر، الجناح المدني في السلطة… أو هكذا يفترض.
لا بدّ من العودة إلى التاريخ الحديث للسودان من أجل محاولة فهم تلك اللعبة الدائرة بين المدنيين والعسكر. منذ استقلّ السودان في العام 1956، يلجأ المدنيون إلى العسكر في كلّ مرّة يثبت فيها فشلهم في إدارة البلد… ويلجأ العسكر إلى واجهة مدنيّة بين حين وآخر بغية تغطية عجزهم عن ممارسة الحكم وإيجاد حلول للأزمات الاقتصادية والسياسيّة المتلاحقة. هل يمكن للعسكر فرض توازن جديد وأن يظهر البرهان وحميدتي أنّ الوضع سيكون مختلفا وأنّهم سيؤمنون حماية للسلطة المدنيّة ونوعا من الطمأنينة والاستقرار كي تنصرف إلى معالجة مشاكل البلد التي تبدو في غاية الصعوبة؟
من الضروري التذكير بما هو معروف عن أنّه في العام 1958 سلّم السياسيون السلطة إلى العسكري إبراهيم عبّود بعدما اكتشفوا أنّهم غير قادرين على ممارسة مسؤولياتهم. ما لبث عبود نفسه، وكان برتبة فريق، أن وصل إلى طريق مسدود في العام 1964. كان كافيا نزول المواطنين إلى الشارع وإطلاق شعار “إلى الثكنات يا حشرات” كي ينتهي زمن العسكر وكي يعود المدنيون إلى السلطة التي ما لبث أن تسلّمها انقلابي أرعن عديم الثقافة اسمه جعفر النميري. بقي النميري في الرئاسة حتّى العام 1985 قبل أن يضطر إلى التنازل في ضوء ترهّل بلغه السودان على كل صعيد.
بعد فترة قصيرة من الحكم المدني، نفّذ ضباط إسلاميون، كان يرعاهم زعيم الإخوان المسلمين حسن الترابي في منتصف العام 1989 انقلابا عسكريا. كان ذلك من منطلق شعار أنّ “الإسلام هو الحلّ”. خرج البشير على طاعة الترابي ومارس حكما عسكريا مباشرا أنهته في العام 2019 ثورة شعبيّة يرفض كبار الضباط الاعتراف بها وبحقها في تشكيل سلطة تكون بالفعل السلطة المسؤولة عن إدارة شؤون السودان وإعادة بناء اقتصاده وإيجاد حلول لمشاكل في غاية التعقيد من نوع مشكلة شرق السودان. يتبيّن كلّ يوم أن عبدالله حمدوك ليس الشخص المؤهّل لإدارة البلد واتخاذ قرارات كبيرة. يحتاج في كلّ وقت إلى دعم العسكر وغطاء منهم.لم يكن النميري يعرف ما الذي يريده. بدأ عهده بشعارات عروبيّة بالية، من النوع الذي استخدمه قبله جمال عبدالناصر، وانتهى بالبحث عن طريقة يسترضي بها الإخوان المسلمين الذين نخروا المجتمع مستفيدين من حال التسيّب التي سادت في السنوات الأخيرة من حكم النميري ومن الدور التخريبي الذي لعبه حسن الترابي وقتذاك.
اتخذ السودان منذ إيداع عمر البشير وأركان نظامه السجن خطوات عدة تميّزت بالجرأة، خصوصا في مجال الانفتاح على العالم ودول المنطقة والتخلص من العقوبات التي فرضت على البلد. لكنّ كلّ هذه الخطوات تبدو ناقصة في غياب تفاهم في العمق بين المدنيين والعسكر. تبيّن أن الوصول إلى مثل هذا التفاهم شبه مستحيل من دون إجراء حوار في العمق يضع الأسس لمرحلة مختلفة تؤدي إلى توازن جديد يقتنع فيه كلّ طرف بحاجته إلى الآخر. العسكر يحتاجون إلى المدنيين… والمدنيون يحتاجون إلى العسكر. لا غنى لأي من الطرفين عن الآخر.
إذا لم يمتلك العسكر مثل هذه القناعة، التي تفضي إلى وقف الابتزاز للمدنيين والقبول بنوع من توزيع للأدوار في ما بين الجانبين العسكري والمدني، سيبقى السودان في دوامته الأزليّة. لكن ما لم يعد في الإمكان تجاهله أنّ هناك حاجة إلى اقتناع للمدنيين بأن الثورة في الشارع شيء وممارسة مسؤوليات السلطة في بلد معقّد مثل السودان شيء آخر.
تهدّد الدوامة السودانيّة بالمزيد من الأزمات والانقسامات الداخلية التي لن يعثر لها على حلّ مهما بذل المجتمع الدولي من جهود من أجل مساعدة السودان وتمكينه من استغلال ثرواته الضخمة. لكنّ هناك مسؤولية كبيرة مشتركة يتقاسمها العسكر والمدنيون في الوقت ذاته. هذه المسؤولية مبنيّة على قناعة محدّدة. في أساس هذه القناعة أنّ لا غنى لأي من الطرفين عن الآخر وأنّ أي حكم مدني يحتاج إلى حماية العسكر للقرارات الكبيرة التي سيتوجب عليه اتخاذها. لن يقبل العسكر بحماية هذه القرارات من دون ثمن. يريدون أن يكونوا شركاء في السلطة من جهة وأن يكونوا شركاء في القرارات الكبيرة من جهة أخرى.
مثل هذه القرارات الكبيرة التي اتخذها العسكر، قبل أن يتخذها المدنيون، سمحت برفع العقوبات الدولية عن السودان وسمحت بتمرير مساعدات إليه. كيف الوصول إلى التوازن الجديد. هذا هو السؤال المحوري في السودان. قد يساعد في ذلك اكتشاف كلّ طرف من الطرفين أن لديه حاجة ماسة إلى الآخر. الحاجة أمّ الاختراع. هل يخترع السودانيون معادلة جديدة أم يبقون في دوامة من الطرف الأقوى المدنيون… أو العسكر؟