ماذا بعد سقوط الأسد؟
كريم فرمان
ما كان أفضل وصف للحالة الجديدة في سوريا ما قاله الناطق باسم الأمن القومي الأمريكي بان اي وضع جديد في...
القيادة الإيرانية أو جزء منها على الأقل، يريد المضي في امتلاك السلاح النووي، ويفضل أن يكون هذا السلاح هو مادة التفاوض مع أقطاب العالم، وليس الحلم بتصنيعه. ويظن هؤلاء أن شروط الحوار على هذا الأساس أفضل بكثير، وأن الدول التي تحاور إيران ستقدم التنازل تلو الآخر من منطلق الخوف، وليس رغبة بتحقيق السلام في المنطقة.
عندما يقرأ الإيرانيون التقرير الأخير لمعهد ستوكهولم لبحوث السلام، والذي يقول إن عدد الأسلحة النووية في العالم سيرتفع في العقد المقبل، يعتقدون أنهم على الطريق الصحيح عند وقف كاميرات المراقبة الدولية في مواقعها النووية، أو تعقيد شروط مفاوضات فيينا إلى حد يستعصي بعده التقدم نحو إحياء اتفاق لوزان الموقع في 2015.
المعهد يقول إن سباق التسلح النووي سيعود مجددا بعد الحرب الأوكرانية – الروسية، والدول التي تملك هذا السلاح حاليا بدأت سرا أو علنا بتطوير ترسانتها. إن كان الوضع هكذا فعلا، ما الذي يمنع إيران من التفكير في الانضمام إلى قائمة هذه الدول؟ وهل من مقابل يمكن أن تقدمه أوروبا والولايات المتحدة لها، يكون أكثر إغراء من القنبلة الذرية؟
الإجابة على التساؤل الأول تأتي من فهم إيران للسياسة الخارجية منذ ما يزيد على أربعين عاما، فهي ترى أن قوة الدول تكمن في حجم التهديد الذي تشكله لمحيطها، وليس بقدرتها على التأثير الإيجابي في المنطقة. وبمنطق “القوة” الذي تؤمن به طهران، يصعب التفكير بأي تأثير لها على جوارها لا ينتهي إلى الحرب والخراب والهيمنة.
تاريخ إيران ما بعد “الثورة” يقول ذلك. ونظام الخميني وخامنئي لم يبعث الازدهار في أي بلد جار تدخلت به إيران طوال العقود الماضية. فطهران أطلقت ميليشيات مسلحة في دول بالمنطقة. كما صنعت ساسة وإعلاميين ومشرعين عمموا ثقافة إقصائية، تضرب الأولويات في دولهم وتهمشها من أجل إيران ومصالحها الطائفية والعدائية.
منذ عام 1979 استغلت إيران كل أزمة في الدول العربية، وخاصة المجاورة لها، من أجل أن تتوغل وتتغلغل فيها. عملت بكل حيلة للتدخل المباشر وغير المباشر، فنجحت في بعض الدول ولا تزال تحاول في الأخرى. و”نجاح” إيران يترجم في تناحر طائفي وسياسي ومجتمعي يقود الأوضاع المعيشية لشعوب هذه الدول إلى الأسوأ.
القوة لإحداث الضرر هو ما يغري إيران، وليس القوة لنسج العلاقات وإبرام التحالفات التي تنعكس رفاهية على حياة سكانها. فحال الإيرانيين لا يخفى على أحد، وما يعانوه اليوم من مشكلات في الصحة والتعليم والاقتصاد والغذاء وغيرها، هي نتيجة طبيعية لسياسة اللهاث خلف قوة التخريب والهدم التي تضرب في كل مكان يطأه قادتهم.
هل يوجد سوى كوريا الشمالية يمكن أن تكون مثالا تحتذي به إيران في العصر الحديث؟ هي الدولة الوحيدة التي اختارت تفضيل امتلاك السلاح النووي على تحقيق رفاهية شعوبها والتفوق الاقتصادي والعلمي؟ لديها نحو عشرين رأسا نوويا وفقا للتقارير المختصة، وكل فرد فيها يعيش رعب الإعدام في أي لحظة ينتقد فيها الزعيم.
كيف يمكن أن يكون حال إيران اليوم لو أنها تخلت عن برنامجها النووي منذ زمن؟ ربما تحولت إلى قوة اقتصادية وسياسية إقليمية، أو ربما كانت دولة لا تتجاوز حدودها في النفوذ ولكنها ستكون نموذجا يحتذى في المنطقة. لو استثمر قادة طهران العقود الثلاثة الماضية بمشاريع تنمية وتطوير داخلية لكانت الآن أفضل حالا، وأكثر نفوذا عالميا.
هذه الافتراضات تقودنا إلى التساؤل الثاني، وهو ماذا يمتلك الغرب ليقدمه لإيران كبديل أكثر إغواء من امتلاك القنبلة الذرية؟ والإجابة باختصار، الكثير من الأدوات والاستثمارات التي يمكن أن تنهض بالإيرانيين، ولكن المشكلة أن النهضة التي قد تتحقق عبر أوروبا والولايات المتحدة لا تلائم فهم قادة “الثورة الإسلامية” للنفوذ والقوة والتقدم عالميا.
ربما تعول إيران على مماطلة تقود إلى ظرف دولي يسمح لها بامتلاك قنبلة ذرية، ولكن الواقع يقول إن مثل هذا الظرف لن يتوافر على المدى المنظور. كما أن امتلاك إيران لهذه القنبلة يفتح الباب أمام سباق تسلح نووي في المنطقة بأسرها، ولا أحد حول العالم يتحمل مثل هذه المخاطرة لأن الشرق الأوسط ليس جزيرة نائية ومعزولة.
والسعي غير المعلن لامتلاك السلاح النووي يشبه ادعاء وجود خطر خارجي مستمر يواجه البلاد. كلاهما يستغل لقمع الإيرانيين في كل مرة يطالبون فيها قادتهم بالتخلي عن أحلام الهيمنة على المنطقة والالتفات إلى الدولة، كلما أرادوا منهم التنازل عن العدائية للخارج والعمل على توفير الرفاهية للشعب وتأمين خدماته وحاجاته.
والاختباء خلف العدو الخارجي المزعوم لتبرير الاستبداد في الداخل، نظرية أثبتت التجربة فشلها. ومن الأمثلة الحية التي يمكن الاستدلال بها على هذا الفشل دولة كوريا الجنوبية التي تعيش نظاما ديمقراطيا على بعد كيلومترات من “جمهورية الرعب” كما يطلق على جارتها الشمالية. دولتان متناقضتان تماما في الحكم تجمعهما حدود برية.
وقادة إيران يختبئون خلف العديد من “الأعداء” ليبرروا الترهيب الذي ينشرونه في بلادهم وخارجها. بعض الأعداء يعيشون بالقرب منهم في آسيا والبقية موزعون على قارات العالم الأخرى. وجميعهم كما تروج طهران يتربصون بـ”المقاومة” ويستهدفون تلك “النجاحات الكبيرة” التي حققتها “الثورة الإسلامية” على مدار أربعة عقود.
المفارقة أن جميع “أعداء” إيران أفضل حالا منها، وشعوبهم تتمتع بحياة اقتصادية وسياسية أكثر جودة وفعالية وإنسانية مما يعيشه الإيرانيون، ولكن يبدو أن قادة طهران لا يكترثون، ولا يوجد ما يمكن أن يثنيهم عن وهم القوة الذي يطاردونه على جثث الإيرانيين وسكان المنطقة. الوهم هو الواقع الذي يعيشه فرسان “المقاومة” ولن يغادروه أبدا. وكما يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا “الوهم أشد رسوخا من الحقيقة”.