ماذا بعد سقوط الأسد؟
كريم فرمان
ما كان أفضل وصف للحالة الجديدة في سوريا ما قاله الناطق باسم الأمن القومي الأمريكي بان اي وضع جديد في...
على الهواء نقلت قناة «الجزيرة مباشر» التي منذ افتتاحها تشير إلى مواعيد برامجها بتوقيت «مكة المكرمة»، خطبة الجمعة لخامنئي من طهران، والتي تجاوزت في دلالاتها ورمزيتها كونها خطبة جمعة دينية لتكثف بشكل عميق مأزق «الإسلام السياسي» الشيعي وذهنية الملالي كما هو الحال مأزق الإسلام السياسي الذي تتبنى خطابه القناة مع دول كنظام إردوغان وكيانات سياسية أخرى تشكّل محور «الأزمات» في المنطقة.
خامنئي عبر خطبة الجمعة الرمزية أراد استعادة هويّة دولة الملالي التي أصابها تصدّع كبير في الداخل ما بعد سليماني كما هو الحال مع الخارج حتى مع الدول التي تسعى ببراغماتية وانتهازية شديدة إلى إعادة النظر في علاقتها معه كالدول الأوروبية. مسألة استثمار الشعائر الدينية في ترسيخ الآيديولوجيا المتطرفة ومشروع تصدير الثورة كانت هدف خامنئي الذي حاول إعادة ترسيم هويّة الملالي التي تخلط أوراق الديني والسياسي مع إشارات لا تخطئها العين وإن كانت ضمن طقوس ترسيخ النزعة العنفية كما رأينا مشهد التلويح بالسلاح وإطلاق صيحات التهديد والوعيد وباقي منمنمات «الخطاب» الشعاراتي الذي يتدثر به الملالي مقابل فشلهم في إدارة الأزمة السياسية التي أصابت قلب «هويّة» النظام أكثر من قلب «سليماني» الذي جسّد تلك الهويّة.
تاريخياً، يبتعد الآيات والقادة الدينيون عن إلقاء الخطبة بأنفسهم مكلِّفين نواباً لهم، إلا أن صعود خامنئي للمنبر هذه المرة كان استثناءً تطلّبته المرحلة بعد آخر خطبة له عام 2012 التي كانت أيضاً عقب موجة الربيع العربي، وخاطب حينها بالعربية الشعوب العربية مركّزاً على مصر وتونس، كما تطرق في خطبته تلك إلى الداخل محاولاً حسم الجدل بشأن التفاوض مع أميركا حول البرنامج النووي. في تلك الخطبة الخامنئية قال للشعب الإيراني في نشوةٍ لا تشبه الخطبة الأخيرة التي ملأها اليأس رغم الشعارات المدوّية التي تضمر محاولة الظهور بمظهر القوة: «إن إيران استطاعت التغلب على التحديات بمختلف أشكالها. ثورتنا الإسلامية في إيران أسقطت نظاماً مستبداً وديكتاتورياً ومعادياً للإسلام»!
ي الخطبة الأخيرة التي احتفلت بها «الجزيرة» كان خطاب خامنئي القلِق والمقلِق موجهاً لمعالجة مأزق الملالي بعد شعور الداخل الإيراني بالإهانة والخداع عقب تصريحات النظام حول مأساة الطائرة الأوكرانية، وكانت صدمة على مستوى الداخل بعثرت حالة التماسك المؤقت والشعور بالقومية الإيرانية عقب تصفية الولايات المتحدة لسليماني، والتي خلقت أزمة ثقة كبيرة وفجوة تتسع رغم سعي الملالي لقمعها بالقوة وعلى الرغم من الانقسامات داخل «الحرس الثوري» الذي وجّه، كما خامنئي، خطاباً يائساً معترضاً على تصريحات روحاني ومسؤولين آخرين تجاه المنظمة الممثلة لهويّة الثورة أكثر من شكلانية الدولة ومؤسساتها التي يحاول الأوروبيون والغرب التعامل معها في سبيل عقلنتها مع ازدياد المخاوف من أن تؤدي الاحتجاجات إلى فرضية «تغيير النظام» التي لا تبدو وشيكة لكنها حتمية، لأن هويّته غير صالحة للحياة في عالم لا يمكن فرض فيه الهيمنة عبر رعاية الإرهاب والكيانات المسلحة وإن طال الوقت أو امتدت حالة الإهمال في مقاربة الحالة الإيرانية خارج أقواس الملف النووي أو الأطماع الاقتصادية والتي كان آخر تطور فيها طلب أميركا من الأوروبيين إعادة النظر في خطة العمل الشاملة المشتركة، وبعد أن أعلن الملالي التخلي عن الالتزام بتطوير أجهزة الطرد المركزي الذي يقرّبها من امتلاك أسلحة نووية.
انكشف للعالم كله اليوم مأزق الملالي المتمثل في أزمة «هويّة» النظام وليس مجرد سلوكه السياسي، الشَرَه الإيراني منذ عقود عاث في المنطقة فساداً وقتلاً وتدميراً حتى آل الأمر إلى انتفاضة من كانوا من المعجبين به في الداخل العراقي واللبناني وحتى في طهران. ما قام به الملالي من تقويض لمنطق الدولة أسهم في تسريع تدمير «فضيلة الاستقرار» التي تتمسك بها دول الاعتدال وتبلغ فيها التجربة السعودية اليوم أوجها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي ورسم معالم العقلانية السياسية في التعامل مع الأزمات، بينما تغرق دول رعاية الميليشيات وحلف الأزمات وفي مقدمتها إيران في وحل الأزمات المتتالية من خلال نتائج وأثمان انتهاكاتها في المنطقة عبر أذرعها الطائفية والعسكرية، وهي ستسعى جاهدة، وحادثة الحوثيين الأخيرة مجرد بداية لتفعيل تلك الأذرع واستخدامها كوقود لمشروعها في تصدير الأزمات للمنطقة، وفتح جبهات جديدة بعد أن ضاق الخناق بها في العراق ولبنان وباتت محاصَرة بأسئلة المجتمع الدولي حول تدخلاتها السيادية، ويتجدد السؤال: ما حدود شَرَه الملالي للجغرافيا السياسية المُتخيَلة التي تعبّر عنها هويّة النظام وفكرة تصدير الثورة التي يعد التخلي عنها مسألة وجود أو عدم وجود؟
من المهم اليوم في مرحلة ما بعد سليماني إعادة تأطير الأزمة من خلال إشارة خامنئي في خطبة الجمعة التي أرادت ترسيم هويّة الملالي من جديد وبعث بها أمام أنصارهم... يجب فهم استراتيجيات هذا السلوك كمحدد للتعامل مع استراتيجيتها العابرة للحدود في المرحلة القادمة من خلال تفعيل أذرعها.
إيران المحاصرة بجغرافيا السياسة وصعود أصوات ناقمة على تدخلها في العراق، وسيطرتها عليه منذ لحظة سقوط نظام البعث، تحاول الذهاب بعيداً عبر الجيوبولتيك السياسي طمعاً في امتداد جغرافيا عسكرية خارج إمكاناتها الحدودية؛ بقصد الهيمنة العسكرية والسياسية، أو ما تسمى جغرافيا السيطرة التي سيقاتل الملالي دفاعاً عنها حتى آخر رمق!