مأزق التضخم يضيق أفق التيسير النقدي في تونس
بددت ضغوط التضخم المستمرة في تونس احتمالات دخول قريب للبنك المركزي في دورة التسيير النقدي، التي تشكل أحد العوامل الرئيسية لتحفيز الاقتصاد المتعطش إلى النمو رغم التحديات المالية التي نغصت معيشة الناس وأثقلت كاهل قطاع الأعمال.
يعطي تمديد السياسة النقدية المشددة التي تتبعها تونس منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا لتهدئة التضخم في أسواقها دليلا على أن البنك المركزي مازال يواجه صعوبات وأن الإبقاء على الفائدة في مستواها الحالي لن يحفز النمو.
ورغم تطمينات المسؤولين وصناع القرار النقدي بين الفينة والأخرى بأنها فترة مؤقتة قبل تحقيق الهدف، وهو خفض مستوى أسعار الاستهلاك إلى أدنى مستوى ممكن هذا العام، فإن التدابير المتبعة لا تعطي نتائج كما هو متوقع.
وتراجع مؤشر التضخم السنوي بنهاية الشهر الماضي إلى 9 في المئة قياسا بمعدل تجاوز العشرة في المئة بنهاية العام الماضي، ومع ذلك يبدو تحقيق اختراق في جدار أزمة الأسعار مؤجلا حتى إشعار آخر.
وأبقى مجلس إدارة المركزي في وقت سابق من الأسبوع الجاري الفائدة دون تغيير عند 8 في المئة. وكان البنك قد رفع السعر الرئيسي في نهاية العام الماضي بمقدار 75 نقطة أساس.
ويرى محللون أن الخطوة لم تكن مفاجئة وذلك بالنظر إلى بقاء أسعار الاستهلاك مرتفعة بشكل مقلق على الرغم من أنها ستحد لوقت أطول من عمليات الإقراض بسبب التكاليف، وهو ما قد يعود بانعكاسات سلبية على الاقتصاد.
وتعكس الخطوة تحذيرات محافظ المركزي مروان العباسي المتكررة من دخول الاقتصاد في أزمة أعمق لا يمكن توقع عواقبها، وهي إقرار بضعف السياسات المتبعة من قبل صناع القرار السياسي، وبفشل الخطط الاحترازية للحكومة.
وتشكل في الوقت ذاته قلقا من دخول النمو برمته في ركود مرة أخرى بعدما تركت تونس خلفها منغصات الأزمة الصحية، التي أدت إلى تسجيلها انكماشا تاريخيا.
وقال المجلس في بيان نشره على المنصة الإلكترونية للبنك إن “السياسة النقدية الجارية تدعم استمرار تباطؤ معدلات التضخم خلال الفترة المقبلة”.
وتوقع البنك المركزي، الذي زاد من احتياطاته النقدية إلى 26.6 مليار دولار (8.43 مليار دولار)، تواصل التباطؤ التدريجي للتضخم في العام الجاري، لكنه أكد أن عوامل المخاطر التضخمية تظل نشطة.
وأشار إلى أن تقلص الطلب دولياً أدى إلى تخفيف الضغوط عن الأسعار ودعم تباطؤ التضخم، لكنه أوضح أن المخاوف بشأن عودة التوترات على مستوى الأسعار الدولية والناجمة عن تزايد الأزمات الجيوسياسية قد تعيق مسار تراجع التضخم على الصعيد العالمي.
وتشهد البلاد أزمة اقتصادية حادة فاقمتها تداعيات تفشي جائحة كورونا وارتفاع كلفة استيراد الطاقة والمواد الأساسية إثر اندلاع الحرب في أوكرانيا، وما انجر عنها من اضطراب في الإمدادات حتى أن الكثير من السلع اختفت من أرفف المتاجر.
وتظهر مؤشرات نمبيو، وهي منصة أميركية تتابع الأوضاع المالية والمعيشية للمواطنين في مختلف بلدان العالم، أن الأسرة التونسية المكونة من أربعة أفراد تصل تكاليف مصاريفها الشهرية إلى نحو 3722 دينار (1203 دولارات) باستثناء الإيجار.
في المقابل تقدر التكاليف الشهرية للفرد الواحد بحوالي 338.5 دولار دون إيجار مسكن، وهذا يعني أن ثمة عجزا على مستوى الدخل وهو ما يجعل الناس يواجهون صعوبات، وبالتالي تدهورا في قدرتهم الشرائية.
وتبدو تونس في أمس الحاجة إلى تحفيز اقتصادي يجعلها قادرة على النهوض من أزمة معقدة تواجهها، ودفعت بتصنيفها إلى مستويات متدنية.
وأكد المركزي في بيانه أن تسريع عملية إرساء الإصلاحات الهيكلية ضرورة لكونها السبيل الوحيد لاستعادة نمو سليم ومستدام وشامل بما يمكّن من الحفاظ على توازن الاقتصاد.
ولم يخف البنك خشيته من أن تعرقل ندرة المياه المتواصلة مسار النمو الاقتصادي رغم التحسن النسبي على مستوى المؤشرات الاقتصادية المحلية، بدعم القطاع السياحي والأنشطة المرتبطة به، فضلا عن الأداء الجيد للصناعات التصديرية.
وانخفض عجز الحساب الجاري إلى 3.41 مليون دينار (1.1 مليار دولار)، ما يعادل 2.2 في المئة من الناتج المحلي في شهر سبتمبر الماضي، مقابل عجز قدره 3.29 مليون دينار قبل عام.
كما تراجع العجز في الميزان التجاري من 5.4 مليار دولار في سبتمبر 2022 إلى نحو 3.67 مليار دولار الشهر الماضي.
وتتمثل أهم التحديات التي تواجه تونس في توفير التمويل اللازم لاحتياجاتها المالية الكبيرة، وهو ما دعا وكالة فيتش في يونيو الماضي إلى خفض تصنيف الدولة الواقعة في شمال أفريقيا إلى الدرجة عالية المخاطر سالب سي.سي.سي.
واستند خبراء الوكالة في تقييمهم على ما تواجهه الدولة التي تعاني ضائقة مالية من مصاعب في التوصل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي من شأنه أن يضمن لها تمويلا مهما.
وأظهرت وثيقة رسمية الأربعاء الماضي أن تونس ستسدد ديونا خارجية بقيمة 3.9 مليار دولار في العام المقبل، وذلك بزيادة 40 في المئة عن 2023 وسط ندرة التمويل الخارجي للدولة التي تجد صعوبة في إصلاح ماليتها العامة.
وسترفع الحكومة حاجتها إلى القروض الخارجية من 3.32 مليار دولار في 2023 إلى حوالي 5.2 مليار دولار في 2024.
وتشمل القروض الخارجية قرضا جزائريا بقيمة 300 مليون دولار، و500 مليون دولار من السعودية، و400 مليون دولار من بنك التصدير والاستيراد الأفريقي.
وتقول الحكومة إنها تسعى للحصول على قروض بقيمة تصل إلى حوالي 3.2 مليار دولار، دون أن تذكر مصدرها.
وتتوقع تونس أن ينمو اقتصادها بنسبة 2.1 في المئة العام المقبل ارتفاعا من 0.9 في المئة في عام 2023، وتخطط لتقديم نفس الدعم تقريبا للوقود والكهرباء والغذاء مع زيادة الضرائب على البنوك والفنادق وشركات المشروبات الكحولية.
وضبطت السلطات حجم مشروع ميزانية الدولة للعام المقبل عند قرابة 24.67 مليار دولار، أي بزيادة نسبتها 9.3 في المئة عن ميزانية 2023.