تقارير وتحليلات

ترجمات..

الحقائق والأساطير السياسية والعلمية للقمح المصري

"أرشيفية"

القاهرة

فجرت أزمة القمح في مصر العديد من القصص والحكايات التي تتراوح بين الحقائق والأساطير حول محصول ارتبط في العقل والوجدان لدى شريحة من المواطنين بما يوحي أن هناك مؤامرة على بلدهم تحاك من جانب قوى إقليمية ودولية لتحرمهم من زراعة القمح كوسيلة للضغط المستمر على القيادة السياسية.

ولم تكن الأحاديث عن القمح وزراعته محليا وليدة أزمة فجرتها الحرب بين روسيا وأوكرانيا والتأثير على تدفقه من هاتين الدولتين إلى القاهرة التي أهملته لعقود طويلة مع أنها أكبر دولة مستوردة لهذه السلعة في العالم، بل لها امتدادات تضرب في العمق المصري.

وجرت نقاشات متعددة حول القمح خلال فترة حكم الرئيس الأسبق الراحل حسني مبارك، وسيقت اتهامات تتعلق بتواطؤ وزير الزراعة واستصلاح الأراضي الأسبق يوسف والي موسى ميزار الذي عمل في المطبخ السياسي المصري نحو عقدين متواصلين لعدم التوسع في زراعة القمح، وتم تجاوزها لاحقا مع تزايد المساحة المزروعة منه.

ومن يراجع الأرشيف في الفترة التي تولى فيها يوسف والي حقيبة الزراعة في مصر (يناير 1993 – فبراير 2011)، وفي خضمها تولى منصب الأمين العام للحزب الوطني الحاكم، سيجد الكثير من الحملات التي ضجت بها الصحافة المصرية حول تقاعسه عن زراعة القمح وتشجيعه على زراعة الفواكه والنباتات الطبية بواسطة الصوب الزراعية، بجانب البرسيم المستخدم كعلف للحيوانات، وفي ثنايا الحملات التي تعرض لها الرجل فاحت روائح سياسية حيال قيامه بتعمد التقاعس عن زراعة القمح.

تقويض متعمد
كثافة الروايات وتشابكها حول القمح في مصر تشير إلى أنه محصول استراتيجي بامتياز ويشغل بال المسؤولين والنخبة

اكتست الحملات التي تعرض لها وزير الزراعة الأسبق بقدر كبير من المصداقية مع تقويض مساحة الأفدنة المزروعة قمحا وقطنا وأرزا بحجج مختلفة، بعضها أن هذه المحاصيل لا تأتي بعوائد إيجابية كبيرة، وأن استيراد كميات كبيرة منها أوفر من زراعتها، دون النظر إلى الأهمية الاستراتيجية التي تحملها، وفي مقدمتها القمح.

وظهرت أهمية القمح مع احتدام أزمة الغذاء في العالم عقب اندلاع الحرب الأوكرانية، إذ وضعت الدولة المصرية في موقف بالغ الحرج نتيجة عدم قدرتها على سد احتياجاتها بعد نفاد مخزون القمح المستورد والمزروع محليا مع نهاية العام الجاري، وسط ارتفاع أسعار الخبز المنتج من القمح، وهو ما أعاد إلى الأذهان سرديات سابقة بشأن وجود خطة خفية لحرمان مصر من زراعة هذا المحصول في أراضيها.

ولم تكن حسابات أن حوالي 90 في المئة من مساحة مصر صحراوية والوادي الضيق حول نهر النيل تحولان دون زراعة القمح صحيحة، لأن هناك تقديرات علمية قالت بإمكانية زراعة القمح على مساحات شاسعة لوجود مخزون جوفي كبير من المياه في الصحراء الغربية في المحافظة المعروفة بالوادي الجديد تحديدا وكانت من أهم المناطق في زراعة القمح في عصور سابقة.

وأشار عالم الجغرافيا الراحل جمال حمدان (المتوفي في 1993 في ظروف غامضة) إلى وجود نحو 34 مليون فدان صالحة للزراعة في الساحل الشمالي، وأن الخزان الجوفي في المنطقة يكفي لزراعة تمتد إلى حوالي ثلاثين عاما، لكن لم يهتم المسؤولون في مصر بهذه المعلومات في وقت ينمو عدد السكان بنسبة متسارعة.

وشهدت سنوات الرئيس الراحل حسني مبارك معارك ساخنة حول القمح، وظل وزير الزراعة يوسف والي محل اتهام ولم يتمكن من تبرئة ساحته، ومضى في خططه الزراعية التي لم تمنح القمح أولوية نهائيا، مع أن كل المؤشرات ذهبت إلى أن البلاد يمكن أن تواجه أزمة بسببه في أي وقت.

رفض حتى النهاية

أخذت الحملات التي تعرضت لها وزارة الزراعة في عهد الوزير الراحل يوسف والي نوعين من الشد والجذب، والأخذ والرد، أحدهما سياسي والآخر علمي – فني، ولم تهدأ بعد رحيله وسقوط نظام مبارك وحل الحزب الوطني عقب اندلاع ثورة 25 يناير عام 2011، فقد جرى تحميل النظام برمته مسؤولية التدهور الذي حل بمصر في مجال الزراعة وغيرها من المجالات الحيوية.

وعلى المستوى السياسي، قيل إن هناك مؤامرة نسجتها إسرائيل بالتعاون والتنسيق مع الولايات المتحدة لحرمان مصر من زراعة القمح وشل قرارها السياسي بالاعتماد على استيراده، حيث يمثل هذا المحصول أهمية فائقة عند غالبية المصريين إلى الدرجة التي يطلقون عليه “عيش” كمؤشر على أنه مصدر الحياة لديهم، وتم استخدام الاتجاه نحو زراعة الفواكه والنباتات الطبية على حساب القمح على أنه جزء من خطة محكمة هدفها الترتيب لتجويع مصر، أو عدم تمكينها من الاعتماد على ذاتها.

واستخدم الفريق السياسي الكثير من الأدلة والشائعات التي انتشرت حول شراكات زراعية متباينة بين مصر وإسرائيل لتأكيد هواجسه، ووصفت في حينه بأنها أشبه بـ”زواج كاثوليكي” بين الجانبين.

وتضاعفت المخاوف مع اللجوء إلى “شتلات” (بذور للزراعة) مستوردة من إسرائيل استهدفت زراعة فواكه هجينة في غير أوانها، ثم زادت المسألة مع شيوع أمراض الكلى عند فئة كبيرة من المصريين وقيل وقتها إنه تمت زراعة محاصيل استخدمت فيها مبيدات تسبب الإصابة بمرض السرطان.

وقادت الكاتبة سكينة فؤاد حملة صحافية ضد تصورات وزير الزراعة يوسف والي استمرت فترة طويلة على صفحات جريدة الأهرام الحكومية، وكالت إليه كل ما يمكن وصفه بـ”المؤامرة” لمنع التوسع في زراعة القمح، واضطر رئيس تحرير الجريدة الأسبق أسامة سرايا إلى منعها من الكتابة لإجبارها على وقف حملتها بعد تعرضه لضغوط سياسية، حيث كان والي صاحب نفوذ كبير في الحكومة والحزب الحاكم.

الدولة المصرية وضعت في موقف بالغ الحرج نتيجة عدم قدرتها على سد احتياجاتها بعد نفاد مخزون القمح المستورد والمزروع محليا مع نهاية العام الجاري

وطالبت فؤاد التي أرادت تبصير المسؤولين بما يحاك في الزراعة أن يصبح المشروع القومي للقمح واجبا وطنيا وشجعت على إحياء صندوق التكامل المصري السوداني لزراعة القمح الذي توقف لأسباب مجهولة.

وعلى المستوى العلمي – الفني، ظهرت شخصية نسائية أخرى اسمها الدكتورة زينب الديب الخبيرة في علم الأجناس (الأنثروبولوجيا)، وامتلكت مشروعا واعدا في منتصف التسعينات من القرن الماضي لزراعة القمح من سلالات عالية الجودة، ووثقته في فيديو لا يزال موضوعا على يوتيوب حتى الآن بعنوان “فاروق الباز يحارب مشروع الاكتفاء الذاتي من القمح”.

انتشرت حكايات زينب الديب لإصرارها على توطين زراعة القمح في البلاد، واستخدمت أساليب علمية حديثة لتأكيد إمكانية زراعته من خلال سلالات جديدة في مناطق بالصحراء الغربية، وأثبتت أن هناك كميات كبيرة من المياه الجوفية قادرة على توفير المياه لزراعة الملايين من الأفدنة في قلب الصحراء.

وقالت إن مشروعها تعرض للاغتيال على يد وزير الزراعة الأسبق يوسف والي، لأن المساحة التي قامت بزراعتها أنتجت محصولا نوعيا يؤدي إلى جني ضعفي ما كان يتم إنتاجه، وأخذ محصولها بغرض استخدامه “تقاوي” أي بذور وتعميم زراعته على مساحات أكبر دخل المخازن المصرية ولم يخرج منها إلى المزارعين.

انتصار بعد فوات الأوان

اختلطت الجوانب الفنية بالسياسية في قصة زينب الديب التي اتهمت الدكتور المصري فاروق الباز العالم في وكالة ناسا للفضاء بالتواطؤ أيضا، حيث لم يكن من المشجعين على زراعة القمح في مصر، ورأى أن زراعة العطور الطبية أكثر جدوى منه، وأنه كان يعلم المناطق التي تحوي مخزونا جيدا من المياه الجوفية وقام بتضليلها وغيرها، وهو ما جعلها تضع اسمه على الفيديو الذي بثته حول القمح.

وقالت الديب إنها عندما عاتبت الباز على تضليله لها، اعترف لها أن تأكيده على وجود المياه والتشجيع على زراعة القمح في الصحراء المصرية سيؤدي إلى رحيله من الولايات المتحدة وفقدان وظيفته وكل ما حصل عليه من مزايا، وهي إشارة، إن صدقت، تعني أن واشنطن كانت حريصة على منع التوسع في زراعة القمح، وتؤكد ما شاع في أدبيات المصريين بشأن وجود ضغوط خارجية لمنع توطين هذه السلعة.

وذهبت الديب إلى فرنسا عام 1997 عقب إجهاض مشروعها للاكتفاء الذاتي من القمح، وعادت إلى القاهرة بعد اندلاع ثورة يناير 2011، واستقبلت بحفاوة في ميدان التحرير الذي كان مركز الثورة، على أمل أن تعاود استئناف مشروعها في ظل قيادة جديدة تعرف معنى المسؤولية، لكنها اختفت، وقيل إنها توفيت في ظروف غامضة.

وتشير كثافة الروايات وتشابكها بين السياسي والفني حول القمح في مصر إلى أنه محصول استراتيجي بامتياز ويشغل بال المسؤولين والنخبة، والتفكير الذي يتبناه النظام المصري حاليا للاكتفاء الذاتي يحتل حيزا كبيرا من اهتمام المواطنين الذين يتطلعون إلى اليوم الذي تنتج فيه بلدهم هذه السلعة التي تعد مصدر الحياة لهم، ولا يزال يتردد على مسامعهم شعار “من يملك قوته يملك قراره”، فهل تستطيع الحكومة المصرية تطبيق هذا الشعار على الأرض وتجاوز التحديات والشواغل السابقة؟
 

شباب الانتفاضة في إيران يكثّفون عملياتهم ضد مراكز القمع في إيران


العفو الدولية تحث على التحرك ضد خطر قطع أصابع خمسة سجناء إيرانيين


إيران ..تجمعات احتجاجية للعمال في بوشهر وبندرعباس


شبان الانتفاضة يضرمون النار في مراكز القمع والنهب التابعة لنظام الملالي في عدة مدن إيرانية