تقارير وتحليلات
مآرب سياسية وراء استهداف القاهرة..
ما وراء الحديث عن حصول مصر على قاعدة عسكرية في جنوب السودان
يعكس الترويج لمعلومات بشأن إقامة قاعدة عسكرية مصرية على أراضي جنوب السودان، وهو ما نفته جوبا رسميا، رغبة بعض الأطراف الخارجية التشويش على مفاوضات سد النهضة، ببث معلومات مغلوطة توهم الرأي العام الدولي بالتجاء القاهرة للقوة في الملف من بوابة جنوب السودان، ما يسمح لها بخلط الأوراق وزيادة توتير الأوضاع.
أصبحت حرب الشائعات التي تتناثر من هنا وهناك لا تقل ضراوة عن الحروب الحقيقية، لأن القائمين عليها يختارون أهدافهم بدقة، ويحرصون على تسليط الضوء على قضايا معينة تتوافر لها مكونات هضمها بسهولة، وتجاوزت هذه الحرب الأطر التقليدية في الاتهامات والانتقادات، وباتت كفيلة بفتح الطريق لمعارك كلامية لا تخلو من أغراض سياسية.
تداولت بعض وسائل الإعلام خبرا مثيرا، قبل أيام، صاغته وبثته جهات معارضة في جنوب السودان بعناية، حول موافقة جوبا على منح مصر قطعة أرض لبناء قاعدة عسكرية في مدينة “باجاك” بمقاطعة مايوت بولاية أعالي النيل والقريبة من الحدود مع إثيوبيا، لتستضيف 250 عنصرا من الجيش المصري.
سعى من سرّبوا الخبر ومن نفخوا فيه إلى قذف الكرة في المياه الدافئة بين القاهرة وجوبا، والتي شهدت نموا في السنوات الأخيرة انعكس على شكل التعاون المشترك بينهما، وحاولوا تخريبها خوفا من أن تتحول إلى ركيزة لتنسيق إقليمي أوسع يعتمد على السلام والتنمية بدلا من الحرب والإرهاب.
تفاعلت القضية لدى قطاعات عريضة في بعض دول المنطقة، وانتقلت إلى الفضاء السياسي، وجرى تحميلها معاني عسكرية مباشرة، تفيد بأن مصر حسمت خيار التعامل مع إثيوبيا لحل أزمة سد النهضة، وقررت اللجوء إلى العمل العسكري، وأن جوبا هي البوابة الرئيسية.
قبل أن تتصاعد حدة الاستقطابات بين فريق المؤيدين والرافضين، والشغوفين والساخطين، أصدرت وزارة الخارجية والتعاون الدولي في دولة جنوب السودان، الأربعاء، بيانا أكدت فيه أنه “لا أساس من الصحة، ولا يوجد شيء من هذا النوع”.
ولإبعاد جوبا عن الأزمة الراهنة بين مصر وإثيوبيا بسبب سد النهضة، قالت إن البلدين صديقان لها، وكانا يتعاونان في عملية تنفيذ الاتفاق المُعاد تنشيطه لحل النزاع في جنوب السودان، خاصة في الجزء الذي يتناول الترتيبات الأمنية، كما أن إثيوبيا تساعد في الحفاظ على السلام والأمن في منطقة أبيي المتنازع عليها مع السودان، عبر قوة تابعة للأمم المتحدة.
كانت رسالة دولة جنوب السودان واضحة بأن تدهور أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية لن يقودها لدخول لعبة المحاور الإقليمية، ولا تملك الرفاهية التي تجعلها تقبل لتكون كماشة بين مصر وإثيوبيا، أو أي من القوى الأخرى، ومعنية جدا بتوفير الأمن والاستقرار داخلها، والذي ينطلق من ثوابت اتفاقية أديس أبابا للسلام.
تجاذبات ساخنة
لم يشبع النفي الرسمي غليل البعض، وفسروا خطوة جوبا على أنها ترمي للتهدئة وعدم الدخول على خطوط التجاذبات الساخنة، ويكفيها ما تعاني من أزمات، وأنها كانت عازمة على المضي في مشروع القاعدة العسكرية وتراجعت بعد افتضاح أمرها مبكرا.
ومن يمعن قليلا في الحديث عن القاعدة وشواغلها يتشكك كثيرا في المكونات التي اصطحبها، واستهدفت في معظمها الإثارة السياسية، فليس من أدبيات القاهرة الجري وراء بناء قواعد عسكرية في الخارج، لأنها تتطلب حسابات بعيدة الآن عن العقيدة المصرية، وتستوجب مراعاة الأجواء الإقليمية والدولية وتوجهاتها، كما أن القواعد يصعب مداراتها أو إخفاء أغراضها، لكن كل ذلك لا يلغي أن القاهرة اقتربت في الآونة الأخيرة من جوبا بما ولّد الهواجس لدى بعض الدوائر الإقليمية.
مع نشر خبر القاعدة العسكرية تحدثت “العرب” إلى مسؤول سياسي رفيع في القاهرة، وسألته عن القصة ودوافعها، لخص الرجل إجابته في كلمة واحدة “فنكوش”، وهي كلمة عامية يستخدمها المصريون للتدليل على أي شيء زائف أو غير حقيقي، فهمت رسالته ولم أستطرد معه لحساسية منصبه، لكنه أشار إلى أن هناك مستفيدين من هذا الصخب، عليك أن تبحث عنهم، بمعنى أن الحديث مقصود وله مآرب سياسية.
يتابع الرجل، مثل كثير من المهتمين في القاهرة، حملة منظمة تشنها مواقع إثيوبية، مدعومة بأخرى سودانية، لتكريس ما يوصف بـ”شيطنة مصر” وأنها أصبحت قوة “مفترية” تريد أن “تبتلع” الدول الأخرى بجنوب الوادي، في إشارة إلى رغبتها فرض إرادتها على كل من الخرطوم وأديس أبابا، والعمل على توثيق علاقاتها مع دولة جنوب السودان لتكون منغصا بينهما، واعتمد هؤلاء على المساعدات الطبية التي قدمتها القاهرة إلى جوبا مؤخرا في إطار دبلوماسية الصحة التي اتسعت مع انتشار كورونا، كدليل على صواب رؤيتهم.
أغفل من روّجوا لحديث القاعدة أن التوجهات المصرية الحالية لا تميل للتمدد خارج الحدود، وإلا إذا كان صد العدوان التركي على ليبيا له الأولوية، ولا يعني امتلاك القاهرة معدات عسكرية متطورة، بحرية وجوية وبرية، أنها بحاجة لأماكن لتسكينها في الخارج، فهناك العديد من القواعد في شمال وجنوب وشرق وغرب البلاد، والكثير من الدول الصديقة يمكن الحصول منها على تسهيلات، إذا تطلب الأمر، والمقصود التشويش على التحركات السياسية التي تقوم بها مصر، ووصمها بالازدواجية، وأنها تضمر غير ما تظهر.
تغيير القواعد
تردد مصر ليلا ونهارا وقوفها مع المفاوضات لحل أزمة سد النهضة وتصر على مواصلة هذا الطريق إلى نهايته، وعرضت القضية على مجلس الأمن الشهر الماضي، وتدرك أن الحصول على قاعدة قريبة من إثيوبيا في هذا التوقيت معناه أنها تستعد لتوجيه ضربة عسكرية لسد النهضة، وتثبّت عليها الاتهامات التي توجهها جهات مختلفة في أديس أبابا.
من يريد القيام بعمل عسكري لا يحتاج للإعلان عنه من خلال هذه القنوات، خاصة أن فكرة القواعد فقدت جانبا من بريقها بفعل التقدم التكنولوجي، مع الصواريخ العابرة للقارات، والطائرات التي تسبق الصوت وتحمل الطيران لمسافات طويلة، ناهيك عن الحساسية الشديدة التي تحملها الدول الأفريقية تجاه هذه المسألة، وجعلت البعض يتقبلون فكرة تقديم تسهيلات على مضض لمحاربة الإرهاب، وتجنبا للصدام مع قوى كبرى.
شهدت بعض الدول الأفريقية سباقا بين قوى إقليمية وأخرى دولية للحصول على مرتكزات عسكرية، وأصبحت جيبوتي التي تضم أراضيها قواعد لقوى عديدة ومتصادمة نموذجا يضرب به المثل للتوظيف السياسي والاقتصادي، كما أن إريتريا بدأت تنخرط في هذا المجال، وأنشأت تركيا أكبر قاعدة لها في الصومال كنوع من تكريس النفوذ في المنطقة.
وتجاوزت الكثير من الدول الأفريقية فكرة التبعية، أو ربط المصير بجهة معينة، ونجحت غالبيتها في الانفتاح وتوثيق العلاقات مع دول متنافرة أو متخاصمة، فقد أصبح معيار الصعود والهبوط يتوقف على مدى الاستفادة المباشرة وما يتم تحقيقه من مكاسب، ولا توجد دولة يمكن أن تمنح قطعة من أرضها لأخرى مجانا وبدون فوائد أو تنهمك في معركة لا تهمها.
يشير فتح ملف القاعدة العسكرية الوهمية في جنوب السودان إلى أن هناك جهات من مصلحتها زيادة توتير الأوضاع في المنطقة وخلط أوراقها، ما يعني أن الفترة المقبلة قد تكون حبلى بالمزيد من المفاجآت في هذا السياق، فالقوى التي تضررت من ملامح الهدوء التي لاحت في الأفق مؤخرا، تحاول التمسك باستمرار النزاعات والصراعات، واستدعاء قضايا مثيرة.
يستغل هؤلاء بعض المشكلات الحقيقية، ويستثمرون في الأزمات المتوقعة، وينفخون فيهما، وبدا الخلاف بين مصر وإثيوبيا مدخلا مناسبا لتصعيد جديد تلتقي عنده أطراف عدة.
وعلى رغم دحض ملف القاعدة المصرية في جنوب السودان، لم تتم تهدئة تداعياته السياسية، فلا تزال بعض الدوائر تتعامل معه على أنه واقع، ولا تولي اهتماما بنفي جوبا رسميا، ما يعني أن هناك أزمات أخرى قابلة للتفجير للتشويش على بعض القضايا التي تحتاج إلى مواقف محددة.