شؤون العرب والخليج
تجاهل مصر للرسائل الإيجابية لتركيا يحمل شكوكا سياسية
تطبيع اقتصادي لا يرقى إلى مستوى تطلعات القاهرة
وجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان العديد من الرسائل الإيجابية للقاهرة، بينما لم يوجه نظيره المصري عبدالفتاح السيسي رسالة واحدة مباشرة إلى أنقرة، وبدا إلحاح الأول على أهمية تطوير العلاقات لا يحظى بتقدير مماثل في القاهرة، ما يعني أن ما قدم لها الفترة الماضية لم يفلح في تبديد شكوكها السياسية.
وكرر أردوغان في حديثه لتلفزيون “تي.آر.تي” الاثنين أن المباحثات بين بلاده ومصر “متواصلة عند المستوى الأدنى، وليس هناك ما يمنع ارتقاءها إلى مستوى رفيع، يكفي أن يكون هناك تفاهم متبادل”، من دون أن يفصح عن عراقيل.
وحاول الرئيس التركي أكثر من مرة تشجيع القاهرة على مبادلته الرغبة ذاتها في التحسن، غير أنه لم يجد صدى مباشرا وكأن الرئيس المصري مرتاح للمدى الذي وصلت إليه العلاقات من هدوء، ولا يريد المزيد من التقدم أو حدوث تأخر.
ويحمل التحسن معاني سياسية عدة لأنقرة، ويؤكد نجاحها في طي صفحة توترت فيها كثيرا علاقاتها الإقليمية، حيث يظل التطور مع القاهرة عنصرا مهمّا في الحفاظ على ما تحقق أيضا من تحسن مع السعودية والإمارات وإسرائيل مؤخرا.
ويعتقد أردوغان أن مصر تكمل هذا المربع الذي يمثل أهمية حيوية في منظومته الخارجية، ويعزز خطابه الظاهر الرامي إلى تصفير أزماته في المنطقة، ويخصم عدم حدوث تحرك ملموس من طموحاته لما يريد أن تبدو عليه علاقاته الإقليمية، والتي تعد عنصرا حيويا في استعداده للانتخابات الرئاسية العام المقبل.
ويشير التجاهل المصري لإشارات أردوغان إلى استمرار الشكوك في سياساته، فقد تكون القاهرة ارتاحت لتراجعه النسبي عن مناوشاته السافرة في شرق البحر المتوسط، وعلى الساحة الليبية، ودعم جماعة الإخوان والمتطرفين والإرهابيين والمرتزقة، لكنها لا تزال على قناعة بأن ما يبدو تراجعا يدخل في باب المناورات،
ويعبر عن انحناءات مؤقتة لبعض العواصف التي هبت على تركيا الفترة الماضية.
ولم تحصل القاهرة على إجابات محددة وواضحة في الملفات السابقة، وكل ما حدث لا يكفي لحسن النوايا التركية في المستقبل، فلم تغلق أنقرة أو تقوم بتسوية أي من القضايا الشائكة مع القاهرة، ما يعني إمكانية فتحها في أي لحظة وإعادة تدويرها وتوظيفها.
ولا تزال تركيا في تقديرات أجهزة الأمن المصرية غير جديرة بالثقة فيها حتى الآن، ولا تريد القاهرة النظر إلى أنقرة من خلال الخطاب المعلن لمسؤوليها وصرف النظر عن الممارسات على الأرض، وتريد مصر رؤية الكثير من التصرفات العملية.
ويعبر تجاهل السيسي لخطاب أردوغان المستمر عن توجهات يتبناها الأول منذ فترة، ففي خضم احتدام الصراع لم يكن معنيا بالتعليق على التصعيد من قبله والدائرة المقربة منه، وعندما كان يتطرق إلى أزمة أنقرة طرفا فيها لم يتعمد الإشارة إليها مباشرة.
ويميل المنهج الرسمي إلى عدم الاعتماد على الدعاية مع الدول ويترك ذلك لوسائل الإعلام المصرية، لأن تقلبات السياسة يمكن أن تجبر أي طرف على إحداث تغيير في التصورات، وهو ما حدث مع تركيا، حيث ضُبط أردوغان متناقضا في كثير مما أعلنه سابقا حيال مصر مقارنة بخطابه الحالي.
وعقد مسؤولون مصريون لقاء علنيا مع نظرائهم في تركيا في إسطنبول قبل أيام لمناقشة الأزمة الليبية برعاية الأمم المتحدة وحضور ممثلين من دول: الولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا، أوحى أن هناك فرصة جديدة للتفاهم بين القاهرة وأنقرة.
وهناك العديد من الاجتماعات التي عقدت بين مسؤولين في البلدين، لكن لقاء وزيري خارجية البلدين الذي أعلن عنه منذ نحو عام عقب جولتين من الحوار في القاهرة وأنقرة لم يعقد بعد، ما يؤكد وجود أزمة هيكلية ترى مصر ضرورة تجاوزها قبل جلوس الوزيرين في شأن عودة العلاقات الدبلوماسية إلى طبيعتها.
وأشار حديث سابق لوزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو إلى تعيين سفير لبلاده في القاهرة أنه جرى التفاهم حول جميع الملفات العالقة، غير أن استمرار القاهرة على صمتها وعدم التجاوب مع هذه الخطوة حتى الآن يعزز القناعات بأن القاهرة لا تعير اهتماما بالخطاب الإعلامي التركي وتنتظر إجراءات ملموسة.
ويقول مراقبون إن النغمة الإيجابية التي يصدرها الخطاب التركي تستهدف الداخل التركي وإشاعة أجواء من التفاؤل حول الرصانة التي يتمتع بها الرئيس أردوغان وتخليه عن سياسته العدوانية كمحاولة لتطمين جهات عديدة مؤثرة في العملية الانتخابية.
ويضيف المراقبون أن القاهرة لا تريد الانجرار وراء مواقف مجانية أو قبل تبديد جزء معتبر من هواجسها، فهي تنظر إلى العلاقة مع أنقرة في إطار شامل ولا تريد تطويرا معها يقود إلى خسارة حلفاء استراتيجيين لها في المنطقة، مثل قبرص واليونان، وهي واحدة من التعقيدات التي تحتاج مصر إلى حل متوازن لها.
واعتادت تركيا على تغيير سياساتها بسرعة ومكنتها هذه المسألة من الظهور بمرونة عالية في تنقلاتها الإقليمية والدولية، لكنها أوجدت حالة من اللايقين في رؤاها وعلاقاتها، ما يتنافى مع السياسة المصرية التي دأبت على التريث لحد الحذر.
وبقدر ما تخسر تركيا جراء تقلباتها يمكن أن تكسب منها، حيث تمكنت من أن تصبح عنصرا فاعلا في كثير من الأزمات، ويصعب تجاهلها من القوى الكبرى أو الصغرى.
وبقدر ما تكسب مصر بسبب تريثها الظاهر، بقدر ما يمكن أن تخسر إذا طال تريثها عن الحد اللازم، فقد يُفهم منه أنه يعبر عن تردد وربما ارتباك ما يقلل من فرصها في أن تصبح دولة فاعلة في الإقليم.
ولذلك من الضروري أن تعلن مصر عن موقفها رسميا لما وصلت إليه الحوارات الخلفية مع تركيا التي يتحدث رئيسها ومسؤولون فيها كثيرا عن القاهرة من دون أن يسمع العالم رأي الرئيس المصري والمرغوب والممنوع في العلاقات مع أنقرة.