شؤون العرب والخليج
عقوبات الاتحاد للنظام الروسي غير مجدية
يد روسيا مقيدة ولكن في نظام مكبل بالقيود
الأموال المتاحة لروسيا والبالغة 330 مليار دولار، تبدو كافية للصمود لسنوات
تطالب أوكرانيا من حين إلى آخر باستخدام الاحتياطات النقدية الروسية في البنوك الغربية، كسبيل لتقديم تعويضات لها عن أضرار الحرب. ولكن مجموعة عقبات تجعل ذلك أمرا مستحيلا من دون موافقة روسيا نفسها.
يبلغ إجمالي الاحتياطي الروسي 630 مليار دولار. نصفها تقريبا موجود في الخارج. ولكن الحكومة الغربية حتى وإن كانت تستطيع تجميد هذه الأصول وتمنع التحكم بها أو نقلها، إلا أنها لا تستطيع “تسييلها” أو بيعها لكي تتحول إلى أموال نقدية، أو أوراق مالية، لكي تقدمها إلى أي طرف ثالث.
وفي الواقع، فإن أحد أهم ضمانات النظام المالي الدولي، التي توفر خدمات الحفظ والتحويل والتسييل، هي أن هذا النظام محكم، بحيث لا يتمكن أي طرف ثالث من الاستيلاء على ملكيات أي بنك مركزي. لأن الأمر يشبه حبلا مشدودا من طرفين، وبينهما وسيط، وما لم يكن الطرف المالك هو البائع، فإن الوسيط لا يملك القدرة على تحويل ملكية لا يملكها فعليا.
شبهات حول مصادر الأموال
الأمر مختلف بالنسبة إلى ملكيات الأفراد، الذين يمكن حجز أموالهم وأصولهم وبيعها في مزادات تنظم لهذا الغرض، بموجب القوانين المحلية وإجراءات المحاكم، إذا ما توفرت لها الأعذار، من قبيل إثارة الشبهات حول مصدر الأموال التي تم بفضلها شراء الأصول.
ولقد نجح الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، بتجميد أصول تبلغ نحو 17 مليار دولار، بينما جمدت بريطانيا نحو 8 مليارات دولار أخرى، تعود لمالكين أفراد روس ممن يعرفون الآن بـ”الأولغاريشا الروسية”، التي تضم بضع المئات من الأثرياء الروس الذين حصلوا على ثرواتهم من شراء أصول روسية بثمن بخس، حصلوا عليها في عهد الرئيس بوريس يليتسن، وتمكنوا من بيعها أو بيع أجزاء منها، لينقلوا أموالهم إلى الخارج.
ولكن حتى هؤلاء، فإن أصولهم لم يجر التوصل إلى سبيل “تسييلها” لدعم المجهود الحربي الأوكراني، أو لتقديم مساعدات إنسانية لأوكرانيا.
الإجراءات بالنسبة إلى الأفراد أسهل، ولكنها ليست من دون قيود. فالأمر يتعلق أولا بقرار يتعين أن تصدره محكمة، على أساس معين، وفي حال امتدت الشبهات إلى أن المصدر الرئيسي للأموال يعود إلى دولة ما، فبوسع هذه الدولة أن تطالب باسترداد هذه الأموال أو تسييلها لصالحها.
أما الإجراءات المتعلقة بالسعي للاستيلاء على أصول الدول، فإنها مستحيلة. لأن هذه الأصول حتى وإن كانت مودعة في بنوك دول أخرى، فإن “أوراق” الإيداع، لا قيمة فعلية لها من دون أمر من المالك الأصلي يذهب عبر “وسيط” يُدعى “أمين الحفظ”، يتولى الوساطة بين مالك الأوراق وبين المالك الجديد لها، بعد أن يتم تحديد سعر ما تم الاتفاق على بيعه أو شرائه.
ما تم تجميده من الأرصدة الروسية في البنوك الغربية يبلغ نحو 300 مليار دولار. ويمثل التجميد أداة لتعطيل الاستفادة من هذه الأموال، لأن الطرف الآخر، للحبل المشدود، لن يسمح بأي عمليات تحويل أو نقل ملكية أو تسييل لها.
أما الجزء الآخر من الاحتياطات، فإنه موزع بين موجودات نقدية لدى المصرف المركزي الروسي، أو على هيئة أرصدة وأوراق مالية في دول مثل الصين، حيث يبلغ حجم الحيازة الروسية نحو 50 مليار دولار. والسبيل الوحيد المتاح لروسيا هو تمويل تعاقداتها من خلال تحويلها إلى يوان.
وعلى العكس من العديد من دول العالم التي تحتفظ باحتياطات من الذهب في البنوك الغربية، في بريطانيا على وجه الخصوص، لتوفير سبيل سهل لتحويلها إلى نقد عند الحاجة، فإن روسيا تمتلك نحو 2300 طن من الذهب، تبلغ قيمتها نحو 135 مليار دولار، ويحتفظ بها المصرف المركزي الروسي في خزائنه الخاصة. وهذا هو السبب الذي دفع بريطانيا إلى تشجيع حلفائها على فرض عقوبات على التعاملات بالذهب الروسي. إذ أن هذه العقوبات تفرض نوعا من “طرف حبل” آخر، قانوني، وليس ماديا كما هو الحال مع الأوراق المالية، للحؤول دون الاستفادة من تلك الكمية الضخمة من الذهب.
الاحتياطات الروسية ليست تحت تصرف المصرف المركزي الروسي مباشرة، لأنها حزم “أوراق مالية” مودعة لدى “أمناء حفظ” خارج روسيا. ولكن أمناء الحفظ هؤلاء، لا يستطيعون التحكم بها من دون موافقة المصرف المركزي الروسي.
صحيفة ”وول ستريت جورنال“ قالت مؤخرا “إن خطأ في هذا التفكير، يجعل هذه الأصول هي مسؤولية شخص آخر، شخص يمكنه فقط أن يقرر أنها لا تساوي شيئا”. وضربت مثلا على ذلك بالقول “العام الماضي قيد صندوق النقد الدولي وصول أفغانستان التي تسيطر عليها طالبان إلى الأموال وحقوق السحب الخاصة”.
الحقيقة هي أن منع دولة ما من الوصول إلى سنداتها وأوراقها المالية شيء، و”جعلها لا تساوي شيئا” شيءٌ آخر.
المنع، يُلحق ضررا بقدرة الدولة التي تتعرض أرصدتها للتجميد على تمويل احتياجاتها، إلا أنها لا تجعل المليار يساوي صفرا.
ما يحصل هو أن “أمناء الحفظ” الذين يقومون بتقديم خدمات الحفظ المركزي للسندات والأوراق المالية، يقومون بدور الوسيط الموثوق به بين طرفي عملية التبادل. وهم بمثابة بنك، يحتفظ بالمال، ولا يملكه، ولكن يستطيع تحريكه بموجب أمر من “شركة الحفظ المركزي” التابعة للمالك الأصلي.
ولأن الوسيط يحتفظ بالمال ولا يملكه، فإن أي محاولة للاستيلاء عليه أو إعادة توظيفه، لا قيمة لها، والإضرار بها يؤدي إلى انهيار النظام المصرفي العالمي برمته، لأنه يزعزع الأساس الذي يقوم عليه وهو “حفظ الامانات”.
والدولار، الذي يعد العملة الرئيسية لهذا النظام، هو أكبر المستفيدين من بقاء النظام كما هو. أي أن مكانة الدولار كعملة مقاصة دولية، هي التي تحمي الاحتياطات المالية الروسية.
وعلى هذا الأساس، فإنه قد يمكن الرهان على إلحاق الضرر بالاقتصاد الروسي، بمنعه من الوصول إلى ما يملك، ولكن لن يمكن استخدام أموالها لأي غرض لا ترضاه موسكو.
روسيا قد تصمد لسنوات
لقد أدت العقوبات على روسيا، وتجميد أصولها في الخارج، الى إضعاف قدرتها على حماية الروبل، إلا أن موسكو سرعان ما تجاوزت الضغط على عملتها، برفع الطلب على الروبل، بجعله العملة التي يجب على مشتري النفط والغاز الروسي استخدامها لتسديد قيمة مشترياتهم.
الوجه الآخر للضرر، هو حرمان روسيا من تمويل مشترياتها من الأسواق الغربية. وحيث أن هذه الأسواق تتعلق بموارد وإمدادات وتكنولوجيات تؤثر على الصناعة، فإنها تمثل أداة فعلية لجعل الركود الاقتصادي واقعا إجباريا.
منع روسيا من تسديد أقساط قروضها من خلال تسييل بعض أوراقها المالية، يجعلها في نظر مؤسسات الائتمان الدولية في وضع دولة “عاجزة” عن التسديد، قسرا، رغم أن موسكو تملك القدرة على التسديد، سواء من احتياطاتها النقدية الموجودة داخل روسيا، أو عبر الدفع بالروبل. إلا أن المقرضين، لم يتمكنوا من قبول هاتين الوسيلتين.
روسيا لا تشعر، في الوقت نفسه، بالضغط من جراء تجميد أصولها، لأن ديونها الخارجية أكبر من احتياطاتها أصلا. إذ بلغ الدين الخارجي الحكومي والخاص 796 مليار دولار في 2021، ضمنها 489.2 مليار دولار ديونا حكومية.
وإذا جاز للحرب أن تفرض “مقاصة” من نوع مختلف، فلو تم “تسييل” كل احتياطات روسيا الخارجية فإنها لن تكفي لتسديد ديونها. ما يجعل المغامرة بطلب الاستيلاء على الأصول الروسية، ضارة على الوجهين. أولا، لأنها لن تسدد الديون. وثانيا، لأنها سوف تزعزع الثقة بالنظام المالي الدولي.
الأموال المتاحة لروسيا، والتي تبلغ نحو 330 مليار دولار، تبدو كافية للصمود لعدة سنوات. وهذا ما يشجع روسيا على التمادي في الحرب ضد أوكرانيا، وعلى التعمد في إلحاق أضرار اقتصادية جسيمة بها. وعلى وجه التحديد، لأن المصرف المركزي الروسي لا يشعر أنه واقع تحت الضغط، لتمويل احتياجات الدولة أو الحصول على إيرادات من مصادر أخرى، أو توظيف العلاقات مع الصين لتمويل بعض الاحتياجات الصناعية.
إلا أن الحرب نفسها، تمثل مصدرا كبيرا لاستنزاف الاحتياطات والموارد، بما فيها الموارد البشرية.
حجم الناتج الإجمالي الروسي يبلغ 1.7 تريليون دولار. ويصل الإنفاق الحكومي الى نحو 34 في المئة من هذا الناتج. وتبلغ حصة النفط والغاز نسبة 42 في المئة من إيرادات الموازنة. ما يجعل مقاطعة النفط والغاز الروسيين محدودة الضرر، لاسيما وأن بدائل التصدير تمكنت حتى الآن من استيعاب معظم طاقة الإنتاج. وحسب نتائج العام الماضي، فقد وفر النفط والغاز للخزانة الروسية نحو 165 مليار دولار، من إجمالي صادرات تبلغ 388 مليار دولار. وهو ما يعني أن القيود على الصادرات الأخرى يمكن أن تلحق ضررا أكبر من القيود على النفط والغاز.
هذا يعني أن روسيا لن تواجه نقصا قريبا في المال، حتى مع تجميد أصولها الخارجية. صحيح أن التجميد يجعل يد روسيا مقيدة، إلا أنها مقيدة في ظل نظام مالي دولي مُكبل، بطبيعته، بسلسلة من القيود التي تجعل من المستحيل انتهاك قواعده، من دون أن تنهار السلسلة برمتها.
السبيل الوحيد الذي يمكن أن تأمل به أوكرانيا، لتعويضها عن خسائرها يمكن أن تنطلق من مبدأ واحد، هو أن توافق روسيا على تقديم هذه التعويضات، إما بدافع الهزيمة العسكرية، وإما بدافع التوصل إلى تسوية. وكلاهما لا يبدو قريبا. وحدها الأضرار الجسيمة هي التي ترتفع، من دون أن تتوقع تعويضا.
التقديرات تذهب إلى أن إعادة إعمار أوكرانيا سوف تحتاج الى نحو 350 مليون دولار، بحسب المفوضية الأوروبية والبنك الدولي. أو ما يعادل كل ما لدى روسيا من احتياطات خارجية. ولكن طرف الحبل الوحيد الذي يمكنه أن يسمح بذلك، موجود في موسكو.