شؤون العرب والخليج
وكالات..
السلطة والكاردينال
"أرشيفية"
لا يمكن للسلطة السياسيّة في العراق أن تتابع عملها السياسي من دون أن تنجح بضبط القضايا السياسيّة في الميزان السياسي الواحد. وذلك وفاقًا للمعايير المؤسّساتيّة المشترَكَة بين الأفرقاء السياسيّين والدينيّين كافّة. ولا يمكن لأي بلد في العالم أن يستمرّ بامتيازات واستثناءات تحت ذرائع الحفاظ على الوجود والتهديد الوجودي للمكوّنات التي تشكّل نسيجه الإجتماعي.
لكن ما لا يمكن إغفاله هو تأمين الضمانات لمكوّنات أيّ دولة مهما كانت طبيعة اختلافها لأنّها تشكّل لَبِنَات وجود هذه الدّولة. فهل سيتحكّم الصراع الديني – السياسي في ثنايا الدّولة العراقيّة؟ أم أنّ عجلة المؤسّسات ستسير وفاقًا لما تريده السلطة السياسيّة؟
قرار إداري بحت
لمواكبة الأحداث التي استجدّت مؤخّرًا، نتيجة لقرار رئيس الجمهوريّة العراقي بسحب المرسوم الذي سبق وأصدره حليفه السياسي من الحزب نفسه، ومنذ عشر سنوات، والذي أعطي بموجبه لبطريرك الكلدان الحقّ بإدارة والاشراف على أوقاف رعيّته. وذلك أسوةً بباقي المكوّنات العراقيّة. نستمزج رأي وزير الهجرة والمهجّرين السابق نوفل بهاء موسى الذي يشغل حاليًّا منصب مستشار رئيس الوزراء محمّد شياع السوداني لشؤون المكوّنات، وهو أحد قياديّي حركة " بابليّون" التي يرئسها ريّان الكلداني. وفيما إذا كان هذا القرار من ضمن الاجراءات الادارية الروتينية لمساواة المكون المسيحي بباقي المكونات عطفًا على ما هو واقع في العراق أم له خلفيات أخرى يفيد موسى في حديثه لجسور أنّ " هذا القرار بسحب المرسوم الجمهوري هو قرار رئاسي بحت." ويستند موسى إلى بيان رئاسة الجمهورية موضّحًا السبب " لكثرة الطلبات لإصدار مراسيم جمهورية مماثلة لباقي الطوائف المسيحية (14 طائفة) في العراق؛ إضافة إلى طلبات من المكون الازيدي والصابئي. "
ويعلّل موسى في حديثه قرار رئيس الجمهوريّة الذي "استشار المستشارين القانونين والدئرة القانونية في رئاسة الجمهورية الذين أبلغوه بأنه لايوجد سند قانوني وتشريعي لإصدار مثل هكذا مراسيم." لذلك، بحسب ما أفاد في حديثه لجسور "تمّ سحب المرسوم الجمهوري السابق للبطرك ساكو."
الاعتراضات الخجولة
أمّا عن إمكانيّة رفع أي اعتراض أمام حكومة السيد محمد شياع السوداني فيشير موسى إلى أنّ " رئاسة الوزراء لا تتدخل بعمل رئاسة الجمهورية مثلما لا تتدخل رئاسة الحمهورية بعمل مجلس الوزراء." وعلى ما يبدو أنّ هذا القرار لن يكون له أيّ تبعات حيث تمّ الاكتفاء، إلى حينه، بتظاهرات عينكاوا بانتظار أن يتمّ اتّخاذ أيّ خطوات تصعيديّة من قبل مَن يؤيّدون قرار الكاردينال ساكو بالاستمرار في مهامه. إلّا أنّ المكوّن المسيحي في العراق كغيره من المكوّنات يبحث أهله عن كيفيّة تأمين مستلزماتهم اليوميّة في ظلّ ما يواجهه العراق اقتصاديًّا. ولعلّ هذا ما سينعكس قبولاً بالقرار الذي صدر الذي يفسّره بعض المعترضين في حال تمّ ذلك، بأنّه رضوخ للمكوّن المسيحي. وهذا ما قد ينعكس انكفاء سياسيًّا في الشارع السياسي العراقي. إلا أنّ بعضهم الآخر لا يرى في ذلك أيّ انتقاص من شأن المكوّن المسيحي ويصرّون على إدراجه في الخانة الإداريّة البحتة، بعيدًا من أيّ خانات أخرى؛ ويستبعد هؤلاء أن يكون لمثل هذا القرار أيّ تداعيات سياسيّة.
تطوير النّظام
وفي إطار تطوير النّظام العراقي، وفي ظلّ دستور ما تزال بعض موادّه عصيّة عن التنفيذ، يتساءل بعضهم عن إمكانيّة رفع أي اقتراح لفصل الدين عن الدولة أو السياسة لتلافي هكذا إشكاليات مستقبلاً، ولينصرف رجال الدين إلى متابعة الشؤون الدينية في أبرشيّاتهم، بينما ينصرف رجال السياسة الى متابعة عملهم السياسي. فمنهم مَن يرى في هذا الأمر مسألة مستعصيةً لأنّ الغالبيّة المجتمعيّة في العراق مرتاحة لوضعها السياسي والاجتماعي، إلى حدّ ما. لذلك لا يعتقد هؤلاء بوجود أيّ إمكانيّة لذلك؛ ويعتبرون أنّ هذه المسألة تطال فقط المكونات المسيحية والايزيدية على سبيل المثال لا الحصر.
وفي هذا السياق يتمنّى موسى " أن يكون هنالك مثل هكذا قانون، ولكنّه يحتاج إلى تشريع في البرلمان العراقي، أو تعديل دستوري." ويتأسّف موسى من هذه الحقيقة كما يوضح في حديثه لجسور بأنّ "العراق كان وما يزال يعاني من تدخل الدين في السياسة." ويتمنّى موسى تعاون" جميع القوى السياسيّة العراقيّة لتشريع هكذا قانون مستقبلاً."
المكوّن المسيحي في صلب الحشد الشعبي، مصلحةً أو قناعةً؟
وفيما يعيد بعضهم سبب هذه الاشكاليّة إلى رفض الكاردينال ساكو تأسيس فصيل مسيحي في الحشد الشعبي، يعتبر موسى أنّ هذا الأمر منافٍ للصحّة لأنّ " الفصيل المسيحي موجود منذ عمليات تحرير المناطق المسيحية من تنظيم داعش الارهابي" موضحًا "كانت له نجاحات في عمليات التحرير، وقدم دماء وشهداء، ثمّ تمّ رسميًّا وقانونيًّا دمجه ضمن قوات الحشد الشعبي باسم لواء ٥٠، والآن هو تحت أمرة دولة رئيس الوزراء ضمن صفوف القوات المسلحة العراقية." ويختم موسى حديثه مؤكّدًا لجسور أن "لا علاقة لهذا الموضوع بالمرسوم الجمهوري الخاصّ بسيدنا ساكو."
بينما يرى بعضهم أنّ هذه المسألة قد تكون نتيجة لذلك، ويتخوّف على الوجود المسيحي في المناطق التي تعتبر تحت سلطة حكومة السوداني، ويخشى هؤلاء من عدم قدرتهم على الصمود في هذا المجتمع الكبير في ظلّ وجود محاصصة في الحكم حيث يتمّ تقاسم المراكز والمناصب في الدّولة؛ فوزير الدفاع للسنة ووزير الداخليّة للشيعة. فبغضّ النّظر عن رفض هؤلاء مسألة التواجد الميليشيويّ إلّا أنّهم يعتبرون أنّ انتساب بعضهم إلى الحشد الشعبي أو قوّات البشمركة هو لدواع معيشيّة يوميّة أو مصدر رزق.
خلاصة القول
مع العلم أنّ الوجود المسيحي في العراق قد انحسر كثيرًا خلال العقدين الأخيرين نتيجة هجرة معظم العوائل المسيحية في بغداد على وجه الخصوص إلى أوربا والولايات المتحدة الأميركية. فضلاً عن لجوء قسم آخر إلى إقليم كردستان الشمالي الذي يتمتّع بالأمن والهدوء خلافًا لبقية محافظات العراق؛ وقد سعت حكومة الاقليم إلى المحافظة على حقوق المكوّنات ما جعلها الضامن للعيش معًا في هذه الواحة الآمنة.
وما بين الامتياز الذي يعتبره مسيحيّو العراق الضامن لوجودهم الحرّ في هذا البلد، والتمييز الذي تراه المكوّنات الأخرى يبدو أنّ الصراع المسيحي ـ المسيحي بشأن كوتا المسيحيين في البرلمان العراقي، عبر أكثر من طرف مسيحي، قد تفاقم أكثر بين البطريرك ساكو وحركة بابليون، التي يتزعمها ريان الكلداني، وطفا على واجهة المشهد السياسي في العراق. وذلك لأنّ الكاردينال ساكو قد أقحم نفسه في القضايا السياسيّة الضيّقة في العراق. وهذا ما يتناقض تمامًا مع رأي ريان الكلداني الذي يتزعّم الملفّ المسيحي في بغداد، وهنا اختلاف الكلداني مع ساكو حول تزعّم الملفّ المسيحي في المركز. وتجدر الاشارة إلى أنّ ريان الكلداني يشدّد دائمًا في مواقفه كلّها على ضرورة فصل الدين عن السياسة. ويرجّح بعضهم الآخر تفاقم هذا الصراع أكثر في الأيّام القادمة.