شؤون العرب والخليج
عدم الاستقرار يزيد من عجز السلطة عن تأمين إعادة الإعمار
مشاكل سوريا الاقتصادية تخلق صراعات جديدة
أنشطة المسلحين داخل الحدود عنصر ضغط على دمشق
اندلعت منذ أغسطس سلسلة من الاحتجاجات والمناوشات تذكر باحتجاجات سوريا 2012، وخرج إلى الشوارع المتظاهرون الدروز في مدينة السويداء الجنوبية التي تسيطر عليها الحكومة، واحتجوا على سياسات الرئيس بشار الأسد الاقتصادية، مما أشعل أعمال عنف بين المتظاهرين والقوات الحكومية، وقد تمهّد للثورة السلمية التي تم اختطافها من المتشددين.
وفي الوقت نفسه، أثار النزاع حول تقاسم عائدات النفط في الشمال الشرقي اشتباكات دامية الشهر الماضي بين العشائر العربية المتحالفة ظاهريا مع قوات سوريا الديمقراطية (المتحالفة مع الولايات المتحدة)، مما أدّى إلى مقتل العشرات من المقاتلين.
واندلعت الاضطرابات على خلفية أول زيارة دولة قام بها الأسد إلى الصين منذ 2004، حيث حاول الحصول على مساعدات لدفع تكاليف إعادة إعمار بلاده التي مزقتها الحرب والتي تقدّرها الأمم المتحدة بنحو 500 مليار دولار. لكنه عاد دون أيّ تعهدات تمويلية ملموسة، ولم تعد الصين سوى بمواصلة دعم سوريا، وهي عضو في مبادرة الحزام والطريق.
وبقيت السويداء موالية لنظام الأسد خلال سنوات الحرب الأهلية الأولى، ويرجع ذلك جزئيا إلى قلق الدروز (المجموعة العرقية الدينية في المدينة الجنوبية) من سيطرة الإسلاميين على البلاد. واندلعت التوترات على مرّ السنين بين السويداء ودمشق، بما في ذلك إثر اغتيال الزعيم الدرزي البارز الشيخ الدرزي وحيد البلعوس المناهض للحكومة في 2015 والاحتجاجات اللاحقة. لكن المنطقة لم تشهد انتفاضة كبرى من قبل.
وتعدّ قوات سوريا الديمقراطية مظلة تضم فصائل وميليشيات، وتعاني من توترات طويلة الأمد بين الجماعات التي يهيمن عليها الأكراد والجماعات العربية، وخاصة بشأن استخدام الموارد مثل احتياطيات سوريا المحدودة من النفط والغاز. كما توترت العلاقات العربية – الكردية مع سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على المدن ذات الأغلبية العربية مثل الرقة، التي استعادتها المجموعة من تنظيم الدولة الإسلامية في 2017.
من جهة أخرى، لا تزال سوريا خاضعة للعقوبات الأميركية، مما جعل من المستحيل على الدول المعرضة لضغوط واشنطن المالية إرسال مساعدات إعادة الإعمار إلى دمشق.
ويُنظر إلى الصين على نطاق واسع على أنها مصدر محتمل لمساعدات إعادة الإعمار بسبب استعداد بكين الأكبر للالتفاف على العقوبات الأميركية مقارنة بدول مثل إيران.
وبلغت الأزمة الاقتصادية في سوريا مستوى غير مسبوق إثر الزلازل التي ضربت شمال البلاد في فبراير 2023، مما فتح الباب أمام صراعات جديدة.
ويتوقع البنك الدولي أن ينكمش الاقتصاد السوري بنسبة 5.5 في المئة سنة 2023، ويرجع ذلك جزئيا إلى تأثير الزلازل الهائلة التي دمرت شمال سوريا خلال السنة الحالية. كما فقدت الليرة السورية أكثر من 50 في المئة من قيمتها هذا العام، متأثرة بارتفاع تكاليف الواردات (خاصة المواد الغذائية والوقود) بسبب الحرب في أوكرانيا والأزمة الاقتصادية في شريكها التجاري الرئيسي لبنان، وعجز الحكومة في دمشق التي تعاني من ضائقة مالية على إصلاح البنية التحتية الرئيسية بشكل فعّال. وقرر نظام الأسد إلغاء دعم الوقود الشعبي لتخفيف الضغط على موارد البلاد المالية، ولاقى ذلك استنكارا في أماكن مثل السويداء ودمشق.
ويؤثر القرار على البلاد على الصعيد الوطني، على الرغم من أن أراضي قوات سوريا الديمقراطية تعتمد أيضا على مبيعات النفط والغاز والتجارة مع العراق لدعم اقتصادها المحلي. ويُقال إن هذه العلاقات موجودة مع دمشق أيضا.
وتضرر القطاع الزراعي في سوريا مع نزوح أكثر من نصف السكان، مما جعل البلاد أكثر اعتمادا على الواردات. وقال وزير الزراعة السوري خلال الصيف إن البلاد ستشهد حصادا وفيرا. لكن سوريا (وجيرانها) شهدت موجات حرارة متكررة. وشهد شهر سبتمبر منع تصدير الزيتون (أعلى صادرات البلاد في 2021) بعد ضعف.
وفاقم عدم الاستقرار المالي المستمر في لبنان مشاكل سوريا من خلال توتر العلاقات الاقتصادية الوثيقة تاريخيا بين البلدين. وكان لبنان في الماضي من الدول القليلة التي يمكن لسوريا أن تواصل التجارة معها علنا. وكانت الصادرات إلى هذا البلد أيضا مصدر دمشق الرئيسي من العملة الصعبة.
ويقول تقرير لمركز ستراتفور إن أنماط العنف الجديدة وعدم الاستقرار سيفاقمان عجز السلطة السورية على تأمين مساعدات إعادة الإعمار الحيوية. ورغم أن الإنجازات الدبلوماسية الأخيرة التي حققتها سوريا كبيرة، إلا أنها لم تجذب وعودا جديدة بالدعم المالي.
وعلى الرغم من عودة العلاقات بين سوريا ودول عربية ثرية، إلا أن هذه الدول لم تتعهد بتقديم مساعدات كبيرة لإعادة الإعمار، حيث لا تزال تشعر بالقلق من العقوبات الأميركية القائمة على دمشق.
وفي نفس الوقت، وبينما تجاهلت الصين سابقا العقوبات الأميركية المفروضة على بعض البلدان أو التفت عليها، لا تستوفي سوريا مؤهلات بكين للاستثمارات الكبيرة لأن الدولة الشرق أوسطية لا تشكّل سوقا كبيرا للصادرات الصينية ولا مصدرا رئيسيا لموارد الطاقة. كما أن سوريا ليست ضرورية جغرافيا لنجاح طموحات مبادرة الحزام والطريق.
وتعني الحرب الأهلية المستمرة، والشقوق التي تظهر الآن خلف الخطوط الأمامية، أن الاستثمارات الصينية في سوريا قد تتعرض لحوادث أمنية. ولم تبد الصين اهتماما كبيرا بتقديم المساعدة الأمنية للبلاد، ولذلك لن تنشر قواتها فيها.
وترتبط العقوبات الأميركية على سوريا بالإصلاحات السياسية (أي التنازلات للمعارضة، بما في ذلك احتمال تقاسم السلطة) التي لن تقبلها حكومة الأسد، مما يعني أن نظام العقوبات سيبقى قائما في المستقبل المنظور. ولا توجد حركة ناشطة شعبية كبيرة في الولايات المتحدة، أو دعم من الكونغرس لرفع العقوبات عن سوريا، نظرا للتأثير الضئيل الذي خلفته عزلة البلاد على الاقتصاد الأميركي.
وأبدت الصين بعض الاهتمام الاستثماري في أفغانستان، لكنها حدت من هذا الاهتمام حسب الظروف الأمنية، رغم الثروة المعدنية الكبيرة التي تمتلكها تلك الدولة الواقعة في جنوب آسيا والتي كان يمكن أن تكون جذابة لبكين لولا مخاطرها.
ستضر الضائقة الاقتصادية المستمرة في سوريا بشرعية حكومة الأسد وقوات سوريا الديمقراطية، مما قد يخلق فرصا للتوسع أمام المتطرفين مثل تنظيم الدولة الإسلامية.
ولا يزال من غير المرجّح حدوث تمرد واسع النطاق مماثل لما حدث في 2011، حيث أعادت دمشق فرض سلطتها إلى حد كبير على العديد من المناطق. لكن المشاكل الاقتصادية المتصاعدة في سوريا ستستمر في تأجيج العنف الذي من شأنه أن يضعف شرعية حكومة الأسد السياسية وقوات سوريا الديمقراطية، حيث تعتمد في الكثير من الأحيان على ادعاءاتهما بتوفير الأمن الاقتصادي والمادي إثر الحرب الأهلية.
وستتمكن الجماعات السرية مثل تنظيم الدولة الإسلامية من الاستفادة من هذا الاتجاه، حيث لن تكون قوات الأمن المنقسمة قادرة على التركيز على احتواء أنشطتها، كما سيبحث المواطنون العاديون عن بدائل للسلطات القائمة لتكافح البطالة وتسمع شكاواهم.
وفي حين من المرجح أن تحتفظ دمشق وقوات سوريا الديمقراطية بالأراضي الخاضعة لسيطرتهما حاليا، يمكن أن يوسع تنظيم داعش والجماعات المتطرفة الأخرى قدراتها السرية. وقد يؤدي ذلك إلى شن المسلّحين المزيد من الهجمات في المدن الكبرى مثل دمشق، مما سيظهر قدرتهم على النشاط في مناطق تتمتع بدفاع أفضل وبعيدة عن ملاذاتهم الآمنة في الصحراء. وقد تحاول الجماعات المتطرفة تنفيذ هجمات عبر الحدود في تركيا والعراق والأردن ولبنان ودول الخليج، اعتمادا على مدى قدرتها على الاستفادة من الإحباطات الاقتصادية وجيوب انعدام الأمن لتحسين قدراتها.
وأعلن داعش مسؤوليته عن تفجيرين على الأقل بالقرب من دمشق في 2023، وهو ما شكّل ارتفاعا طفيفا في النشاط أبرز قدرة الجماعة المستمرة على التنظيم تحت الأرض.
ويعني استمرار عدم الاستقرار أن العديد من اللاجئين السوريين الذين يعيشون في الخارج لن يتمكنوا من العودة إلى وطنهم في المستقبل القريب، مما يرفع الضغط على اقتصادات البلدان المضيفة لهم.
وسيصعب عدم الاستقرار خلف الخطوط الأمامية إعادة الملايين من اللاجئين السوريين الذين يعيشون حاليا في تركيا ولبنان والأردن المجاورة إلى وطنهم. وسيتعين على هذه البلدان المضيفة في المستقبل المنظور مواصلة دفع تكاليف دعم أعداد النازحين السوريين الكبيرة واحتواء المخاطر المتزايدة المتمثلة في الاضطرابات من جانب اللاجئين أو المواطنين المستائين من وجودهم.
وارتفعت المشاعر المعادية للاجئين في لبنان وتركيا، وهي مدفوعة جزئيا بالعبء الاقتصادي الناتج عن استضافة اللاجئين السوريين الذين يقاومون فكرة العودة إلى سوريا بسبب الأزمات الاقتصادية والأمنية المستمرة في بلادهم على الرغم من الظروف الصعبة التي تواجههم.