تقارير وتحليلات
أول الغيث
أول الغيث
أول الغيث
اللعب بالكلمات والتعابير والمراوغة والترميز في المقاصد ما يدأب عليه النظام الإيراني في المفاوضات الحالية مع الولايات المتحدة، والتي يعلم جيدًا بأنها مفاوضات حساسة وبالغة الخطورة، ولا يملك من خيار إلا المشاركة فيها. وهو في سعيه من أجل إضفاء جو من الضبابية والغموض على المفاوضات، فإن ذلك من أجل تهيئة الأرضية والأجواء لما سيُقدِم عليه في النتيجة من تنازلات!
المسؤولون في النظام الإيراني، وبصورة خاصة وزير الخارجية عباس عراقجي، أكدوا في خضم هذه المفاوضات الجارية بأن تخصيب اليورانيوم خط أحمر غير قابل للتفاوض والنقاش، لكن، وجريًا على عادة هذا النظام في ممارسة الكذب والخداع على الشعب الإيراني بشكل خاص، وعلى العالم بشكل عام، فإن عراقجي نفسه، وفي تصريح للتلفزيون الإيراني من مسقط حيث عُقدت المحادثات، قال إن "التخصيب.. يجب أن يستمر ولا مجال للتنازل في هذا الأمر"، لكنه أشار إلى انفتاح محتمل لإيران على الحد من نسبة التخصيب "للمساعدة في بناء الثقة"، موضحًا أن إيران قد تحد من "مستوى تخصيب اليورانيوم أو كميته" في إطار المفاوضات مع الولايات المتحدة!
ما يبعث على السخرية والتهكم، إن عراقجي وغيره في النظام الإيراني، ممن قالوا بأن التخصيب خط أحمر غير قابل للتفاوض، قد غير موقفه من الخط الأحمر إلى "يجب استمراره"، ومن هذا أيضًا إلى انفتاح محتمل للحد من نسبة التخصيب، وهذا يعني بأن كل الذي قيل قبل الجلسة الرابعة للمفاوضات لم يكن سوى زوبعة في فنجان.
وعند التأمل فيما قاله ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط، لموقع "برايتبارت نيوز" يوم الخميس، إن الخط الأحمر بالنسبة لواشنطن هو "لا تخصيب. وهذا يعني التفكيك وعدم التسليح"، الأمر الذي يتطلب تفكيك المنشآت النووية الإيرانية في نطنز وفوردو وأصفهان بالكامل، فإنه يظهر واضحًا بأن النظام الإيراني قد فهم واستوعب الرسالة الأميركية جيدًا، وإن ما قد أكده عراقجي في موقفه التنازلي الذي أشرنا إليه آنفًا، ما هو في الحقيقة سوى أول الغيث الذي سيعقبه الانهمار!
ويبدو واضحًا جدًا حالة الخوف والقلق والتوجس السارية في الأوساط الحاكمة في إيران، وحتى إن سفر عراقجي المفاجئ للسعودية لتسليم رد رسمي إلى الملك سلمان، في خطوة مرتبطة ـ حسب التقارير ـ بالمباحثات الجارية، وربما برسائل أميركية سابقة عشية زيارة ترامب المرتقبة إلى الرياض، أكد بأن المفاوضات تتخذ مسارًا وسياقًا غير الذي يدعيه النظام.
وبهذا الصدد، فقد أبرزت مظاهر التوتر في خطاب ممثل خامنئي في ساري، حيث حذر من أن الولايات المتحدة تسعى لإعادة "سيناريو ليبيا" في إيران عبر هذه المفاوضات. وفي لهجة مليئة بالتوجس، أشار إلى أن واشنطن تريد من طهران التخلي عن الصواريخ، والتقنيات النووية حتى في المجال الطبي، و"تسليم اليورانيوم إلى الخارج"، وقال صراحة: "أميركا تسعى إلى نزع أنياب إيران بالكامل… كما فعلت في ليبيا."
وفي موقف يعكس التناقض داخل النظام، فقد قدم محمد باقر قاليباف، رئيس مجلس النظام، موقفًا متناقضًا أيضًا. ففي حين رفض ما وصفه بـ"إملاءات ترامب"، أكد في الوقت ذاته على عدم معارضته للمفاوضات، شرط أن تراعي مصالح النظام، وقال: "لن نقبل بأن يُملي ترامب علينا ما نفعله، لكننا لسنا ضد التفاوض ما دام ضمن إطار محدد."
أما علي أحمديان، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، فقد لخص حالة الحيرة بعبارة واضحة: "لا يمكن التنبؤ بنتائج المفاوضات، لا نعلم إن كانت ستنجح أو ستفشل."، لكن الحقيقة التي لا يمكن للنظام التهرب منها هي إنه مضطر ومرغم في النتيجة لتقديم التنازلات الموجعة جدًا، والتي يبدو إنه قد بدأ بالإيحاء لها!