"النعيم"..

فيلم الهروب من ثقل الواقع إلى رحابة الخيال

دراما إنسانية عن محاولات يائسة للعيش في عالم اليوتوبيا الأكثر جمالا

بيروت

في فيلم “النعيم” الذي أطلق مؤخرا في دور العرض العالمية، للمخرج وكاتب السيناريو مايك كاهيل وتوزيع “أمازون”، هناك الكثير من الأماني والأحلام المتناثرة التي تسمو على الواقع تارة وتستسلم له تارة أخرى، وما بين هذا وذاك، تعيش الشخصيات أزماتها الخاصة محاولة الخروج منها إلى بديل ما.

وها هو غريغ (الممثل أوين ويلسون) يجسّد تلك الأحلام بعالم بديل وأكثر رفاهية من خلال الرسوم والتخطيطات التي يمضي بها وقته، منصرفا عن عمل روتيني ممل، ورنين جرس هاتف المدير لا يتوقّف، بينما غريغ غارق في عالمه البديل.


وباختصار هو شخصية يائسة ومبعثرة، انفصل حديثا عن زوجته تاركا بنتا وولدا، ليس سعيدا في عمله الروتيني المرتبط بالحلول الرقمية، ابنته تطالبه عبر الهاتف أن يحضر حفل تخرّجها، مديره يلحّ في الطلب إليه لحضور اجتماع عاجل ثم ينتهي الاجتماع بطرده.

أولى التحوّلات الخطيرة في هذه الدراما هي موت المدير بشكل غير مقصود من قبل غريغ الذي يدفع المدير دفعا ممّا يؤدّي إلى سقوطه على رأسه، ولهذا يخبئه غريغ ويخرج جالسا في مقهى قريب.

ولكي تكتمل صورة البؤس التي هو فيها سوف يجد امرأة بائسة وشبه متشرّدة هي إليزابيث (الممثلة سلمى حايك) التي تخبره مباشرة علمها بمقتل المدير، ونصيحتها له بأن يقرّبه من النافذة لكي يسقط فيعدّ ذلك انتحارا.

شخصيتان تريدان الخروج من صندوق الواقع إلى صندوق الخيال، وهو اسم افتراضي لحقيقة ومشروع افتراضي حالم بإمكانه أن يشحذ قدرات العقل الخفية لغرض أن يعيش الناس حقيقتهم الموازية.

جانب من ذلك يتم إسقاطه على غريغ نفسه. فحقيقته الافتراضية تقول بأنه ليس لديه فتاة شابة اسمها إيميلي من زواج سابق، وأن منقذته الوحيدة هي إليزابيث التي سوف تدلّه على إكسير الحياة والتمرّد على الواقع من خلال منحه بضع حبّات كريستال تتسبّب في خروجه من الواقع.

ما بين أدنى درجات البؤس وهو العيش مع المشرّدين في خيمة صغيرة على الرصيف وبين أقصى الرفاهية من خلال السفر إلى جزيرة ساحرة وميناء بديع وخضرة وجبال لا نهائية تتراوح حياة غريغ وإليزابيث، فهي تريه حقيقته البائسة في مقابل حياته الافتراضية التي تفيض بصور الرفاهية.

وبعد ذلك، ولكي يمنح المخرج فيلمه دفعة أخرى على صعيد القصة الدرامية فإنه يجعل من غريغ وإليزابيث مطاردين من قبل الشرطة. فهما في نظر السلطات ليسا إلاّ كائنين عبثيين ومؤذيين، لكن المفارقة التي ستصدم غريغ أنه سوف يشاهد مديره الذي يفترض أنه سقط ميتا في غرفته، وهو حي يرزق، وهنا يتفاقم إحساسه بتلك القطيعة ما بين الواقع الحقيقي والافتراضي.

ضغط الواقع يجعل البطل أسير المشكلات التي تطوّقه من كل جانب، وهو في حيرة من أمره لا يعرف نهاية لمصيره

بالطبع لا يخفى أن سلمى حايك تتكئ على شعبيتها وانتشارها، وإلاّ فإنها في هذا الفيلم لا تقدّم أداءً مقنعا بل أداءً نمطيا عاديا لا يضيف شيئا يذكر، سوى أنها بصحبة غريغ الذي تشعر أنه يؤدّي عدة شخصيات في آن واحد وهو ما يفرضه الواقع الافتراضي.

ضغط الواقع يجعل غريغ أسير المشكلات التي تطوّقه من كل جانب وهو في حيرة من أمره، فهو من جهة غير صالح للعمل، لأنه غارق في الخيال ومنهمك في رسم ملامح الجزيرة الافتراضية التي يريد أن يهرب إليها ويعيش فيها، ومن جهة أخرى هنالك ابنته التي تجرّه إلى حياته السابقة ومسؤولياته، ومن جهة ثالثة هناك إليزابيث التي تريد انتشاله من كل ذلك ليعيش حياة أكثر رفاهية، وفي وسط هذه الدوامة سيعيش غير قادر على اتخاذ قرار لنفسه.

وبسبب التنوّع ما بين الواقعي والخيالي توزّعت المشاهد والانتقالات بين هذين القسمين، ولهذا ينشغل المخرج بصنع مشاهد لكل قسم حتى تغدو المشاهد مجرد تراكم، ليس بالضرورة قائم على نمو أو تصعيد في الدراما، بل إن ذلك ليس إلاّ امتدادا بصريا- صوريا لا علاقة له بجذب المشاهد إلى تحوّل ما.

وبسبب تلك الأرضية بدت أحداث الفيلم مأخوذة إلى سلسلة من الخيالات التي لا تستطيع الشخصية نفسها الجزم في ما إذا كانت لها صلة بالواقع أم أنها مجرد خيالات سوف نمضي معها إلى النهاية، لعل وعسى إليزابيث ترسو بنا على بر.

من جهة أخرى سعى المخرج إلى إضفاء جو من الطرافة على شخصية إليزابيث المتشرّدة، ولهذا تركها تعبث على هواها في محاولة يائسة لتشييد واقع جديد لعلّه يجيب على العديد من الأسئلة التي سوف تعيد غريغ إلى مربّعه الأول في المشاهد الأخيرة، متسائلا هل أن تلك الفتاة هي ابنته حقا؟ ثم ها هو في وسط حلقة ممّن مرّوا بتجارب مماثلة يتحدّث إليهم عن تجربته الإشكالية الملتبسة ما بين الواقع والخيال.