حمدوك يقاتل على أكثر من جبهة صعبة..
كيف يصل السلام إلى السودان ويده مغلولة بلائحة الإرهاب الأميركية
تخوض الحكومة السودانية الآن معارك على أكثر من جبهة داخلية وخارجية، وتواجه تحديات جمة على مستويات مختلفة، وهو ما جعل جهات كثيرة تقلق على مصيرها. فبعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر على تشكيلها لم تتمكن من تخطي بعض الحواجز التي تفتح لها قنوات إقليمية ودولية رئيسية، أهمها رفع اسم السودان من على اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب.
راجت خلال الأيام الماضية تقارير غربية تتحفظ على تردد واشنطن حيال التعامل الإيجابي الكامل مع الخرطوم، وتبدي مخاوف من التمهل الزائد، والذي يمكن أن يعصف بمنجزات الحركات الثورية، ونجاحها في إسقاط أحد أخطر الأنظمة الدكتاتورية في أفريقيا.
نشرت مجلة “فورين بوليسي” تقريرا أخيرا حمّل التصنيف الأميركي جانبا من المشكلات التي يتعرض لها السودان، مقللا من فكرة أن رفع اسمه يحتاج إلى وقت إضافي لتخطي إجراءات بيروقراطية معقدة، بل ذهب إلى أن استمرار الأزمة يضع عبئا سياسيا واقتصاديا كبيرا على حكومة عبدالله حمدوك التي تعمل جاهدة على مكافحة الإرهاب، وتقاوم تبني أية أيديولوجيا متطرفة، وتأخر هذه الخطوة يهدد المكاسب التي حققتها الخرطوم.
اتخذت السلطة الانتقالية في السودان سلسلة من الخطوات العملية للحد من تغول بقايا النظام السابق في مؤسسات الدولة، وأصدرت حزمة من القرارات الجريئة، منها حل حزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقا، والقبض على عدد من رموزه، في مقدمتهم الرئيس المعزول عمر حسن البشير والشروع في محاكمته وإدانته بتهمة الفساد، وعزمت على توسيع نطاق التوجهات الرامية إلى تفكيك سياسات التمكين التي اتبعها النظام السابق، ودعم منظمات المجتمع المدني، وإلغاء قانون النظام العام الجائر في حق المرأة بالسودان.
يعتمد ازدهار الاقتصاد على رفع اسم السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، وقال القاسم وين، المسؤول السابق عن السلام والأمن بالاتحاد الأفريقي، وعبد محمد، رئيس أركان لجنة التنفيذ الرفيعة التابعة للاتحاد للسودان وجنوب السودان، وأليكس دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي بجامعة تافتس الأميركية، في مقال مشترك بجريدة “الغارديان” البريطانية أخيرا: “إذا انزلق اقتصاد السودان للانهيار التام وفشلت حكومته المدنية، فإن هذا الانهيار سيُكتب عليه صنع في أميركا”.
تُحرم الدولة التي تُدرج في لائحة الإرهاب من المساعدة الاقتصادية والقروض من المؤسسات المالية الدولية، وتُمنع أي جهة من التعامل معها دون الحصول على ترخيص من وزارة الخزانة الأميركية، وهو ما يمثل إشكالية كبيرة أمام الخرطوم التي تلقت حكومتها المدنية الجديدة وعودا كبيرة بمساعدتها في مجال الاستثمار ولم يفلح معظمها في دخول البلاد بسبب المطبات التي وضعتها اللائحة الأميركية.
أعادت الولايات المتحدة فتح سفارتها في الخرطوم أوائل ديسمبر الجاري، وهو تحرك دبلوماسي مهم، غير أنه لن يكون كافيا للتعويض عن عدم رفع اسم السودان من لائحة الإرهاب، لأن كل تأخير يوحي بالتقليل من أهمية الدور الذي تلعبه الحكومة ونجاحها في توفير صمامات أمان سياسية، وتصميمها على تقويض أركان النظام السابق، وتبني تصورات تتواءم مع التطلعات التي راهنت على أن تصبح الخرطوم بابا للأمن والاستقرار الإقليمي، بعد أن كانت معبرا للتوتر والصراعات في المنطقة.
اعترفت الولايات المتحدة بأن هناك تغيرات كبيرة حدثت في الواقع السوداني الفترة الماضية، وعينت مبعوثا خاصا، وثمنت العديد من الإجراءات في مجال وقف العدائيات والسعي للسلام الشامل، لكن تعليقات بعض المسؤولين فيها تأتي غالبا مصحوبة ببعض الشكوك، حتى الزيارة التي قام بها حمدوك لواشنطن أوائل الشهر الجاري والتقى خلالها كبار المسؤولين لم تحقق اختراقا في ملف رفع اسم السودان، وأبقته معلقا لجولات قادمة من الحوارات واللقاءات المشتركة، أملا في تهيئة الأجواء داخل الهيئات التي تقع على عاتقها مهمة اتخاذ هذه الخطوة.
يعاني السودان من مغبة هذا الانسداد، فقد كانت الحكومة تريد أن تقْدم واشنطن على هذه الخطوة مبكرا، قبل أن تتزاحم عليها الأزمات، وهناك حوار دائر يرى أن رفع اسم السودان من القائمة الأميركية يفتح الباب للمزيد من التحركات الإيجابية، ويخفف الضغوط السياسية والاقتصادية عليها، وكل تأخير يؤدي إلى توسيع العقم، ويهيء الفرصة لفلول النظام السابق للانقضاض والعمل على استعادة قدر من نشاطهم وهدم الأركان الواعدة التي بدأت السلطة الانتقالية في تشييدها.
كما يمنح التأخير الشق العسكري في مجلس السيادة فرصة للتراخي في القيام بالمزيد من التحركات في مجال مدنية الدولة، بذريعة الخوف من انفلات الأمور مع ظهور تهديدات من قبل عناصر محسوبة على النظام القديم، والسعي للسيطرة على زمام التظاهرات في الشارع لصالحها، والقيام بتصرفات عسكرية تؤثر على تماسك القوى الأمنية التي نجحت في منع انهيار الأوضاع، وحجّمت الدور الذي كان من المتوقع أن تلعبه الميليشيات التابعة للنظام السابق.
لذلك وضعت الإدارة الأميركية، عن قصد أو دونه، حكومة عبدالله حمدوك بين شقي رحى، أحدهما المضي قدما في التوجهات الرامية إلى تقويض ما تبقى من أركان وخلايا نائمة تابعة للبشير، والآخر تقليص ملامح العسكرة في السلطة والمؤسسات القريبة منها، ناهيك عن تحقيق إنجازات سريعة في مجال تحقيق السلام الشامل في كافة ربوع البلاد، وهي الثمرة التي قد تتوقف عليها الكثير من الثمرات في السودان.
يبدو حمدوك يقاتل على أكثر من جبهة صعبة، ويفتقد إلى عدد كبير من الأسلحة السياسية والاقتصادية التي يجابه بها نيران الأعداء والأصدقاء المفتوحة من جهات متباينة؛ فهو يحتاج، كي يوقف زحف الخصوم، إلى تلقي مساعدات مالية عاجلة تسد الحاجات الأساسية في البلاد، ويضمن استمرار التأييد الشعبي لشريحة كبيرة من المواطنين رأت فيه مخلّصا واعدا، ويحتاج إلى امتلاك ذخيرة حية من الأموال لينفق منها على متطلبات جلب السلام.
عادت الحكومة والجبهة الثورية إلى طاولة المفاوضات في جوبا الثلاثاء الماضي، ويحاول الطرفان التوصل إلى تفاهمات وقواسم مشتركة للسلام الشامل. ولن تكفي العزيمة السياسية التي يمتلكها كل طرف لتخطي تلال من العقبات المتراكمة، فلا بد من توافر الأموال اللازمة لتطبيق مخرجات السلام في مناطق الهامش والأطراف التي تضررت من الصراعات والحروب، ولن يتحقق ذلك ما لم تقم الولايات المتحدة بالخطوة المنتظرة في لائحة الإرهاب.
يقود تأخير واشنطن، بصرف النظر عن خضوعه لإجراءات بيروقراطية أم مقصودة لبقاء السيف الأميركي مسلّطا على رقبة الخرطوم، إلى تشجيع دوائر متربصة على تبني خطوات تصعيدية لتكسير عظام السلطة الانتقالية، ومحاولة سد المنافذ أمامها لتصاب بالعقم، وتفشل في تفكيك المشكلات المتزايدة، وفي النهاية تبدو عاجزة في نظر الطامحين والساعين لمرحلة تطوي الصفحة القاتمة الماضية.
يؤثر تعثر الحكومة في مجال حل الأزمات سلبا على الحوارات الجارية مع الحركات المسلحة، ويرفع سقف مطالبها في التعويضات اللازمة وحديث قسمة السلطة والتوزيع العادل للثروة، وربما فرض شروط قاسية لضمان عدم العودة إلى المربع السابق من نقض الوعود والعهود السياسية، والذي تسبب في عدم القدرة على التوصل إلى أي تسوية مستقرة.
تحتاج الخرطوم إلى فك الأغلال الأميركية التي تكبل يديها كأول خطوة مطلوبة لاختبار حجم المساعدات المنتظر تدفقها، واختبار نوايا واشنطن وما إذا كان التأخير فعلا خاضعا لإجراءات داخلية أم له أهداف مجهولة، خاصة أن ثمة تلميحات أميركية تكرر وتعزف بشكل غير مفهوم على وتر أن الوقت لم يحن بعد لهذه الخطوة الكبيرة.
يخشى متابعون أن يكون الزمن المناسب من وجهة النظر الأميركية، يبدو غير مناسب بالمرة بالنسبة إلى السودان، حيث تتعاظم المشكلات يوما بعد آخر، كما أن الكتلة الصلبة التي تعتمد عليها الحكومة (قوى الحرية والتغيير) بدأت تعاني من بعض التجاذبات، ما يؤثر سلبا على تماسك الظهير السياسي لحمدوك في مواجهة الخصوم الذين تتضاعف أعدادهم مع أي إخفاق يواجهه، وكل تراجع يتعرض له، الأمر الذي يستلزم التعجيل برفع اسم السودان.