اللوحة للفنان النرويجي ادفارد مونش..
نيتشه وفن العيش
إذا أراد المرء أن يتخيل صورة نيتشه بناء على معرفته بأفكاره وفلسفته، لا يمكنه إلا أن يرى صاحب "هكذا تكلم زرادشت" في صورة عاصفة.
إذا أراد المرء أن يتخيل صورة نيتشه بناء على معرفته بأفكاره وفلسفته، لا يمكنه إلا أن يرى صاحب "هكذا تكلم زرادشت" في صورة عاصفة، وعندما تعرفَّ الفنان إدوارد مونش على كتب نيتشه، وبدأ بقراءته رسم لوحة "الصرخة" مستلهماً فكرتها من فلسفة فيلسوف الريبة، ويبادرُ مونش سنة 1905 برسم صورة لنيتشه باسم "لوحة الأفكار"، وأراد بذلك إضاءة رحلة نيتشه الفكرية وثورته على أسلافه.
وفي رواية "عندما بكى نيتشه" يبدي الطبيبُ استغرابه من وجود التناقض بين أسلوب نيتشه الرقيق في العيادة، وصوته الحاد الذي يكون أقرب إلى صرخة المحارب في كتبه، وما أن سمع نيشته هذا الكلام حتى قال موضحاً، إنَّه ليس لغزاً عظيماً، فإذا لم يكن هناك أحد يستمع إليك فمن الطبيعي أن تصرخ.
قد تكون الجملة الأخيرة من الحوار مدخلاً مناسباً لتناول حياة الشخص، الذي أراد أن يصبحَ كائناً نادراً واعتكفَ للبحث عن دروب جديدة للخلاص البشري. يعتقدُ ألبير كامو أنَّه باستثناء كارل ماركس لا مثيل لمُغامرة نيتشه في تاريخ العقل، حيث وضع فيلسوف المطرقة، الإنسان أمام مصيره وحيداً، لذا فإنَّ أفكاره كانت بمثابة زلزلة تهدفُ إلى القضاء على داء الكسل والخوف، وأعلن شعاره "إغدُ ما أنت عليه".
في حربه ضد الأصنام سلك نيتشه طريقاً وعراً، وعانى في حياته آلاماً مضنية، خذله الأصدقاء وسئم من قيود الأسرة وهو يقولُ "عندما يصل المرءُ إلى الحرية يكونُ مرهقا"، حملَ نيتشه على العلم، وبرأيه فإن فردوس العلم ليس إلا كذبةً حتمية مثل غيره من الوعود التي زادت من وزر الأوهام على العقل.
استهوت نيتشه قراءة مؤلفات إيمرسون والفيلسوف الإغريقي إيمبيدوكليس والشاعر الألماني فريدريك هولدرلين، واللافت على هذا المستوى، أنَّ نيتشه يتمردُ على من أنزلهم بمنزلة الملهمين بالنسبة إليه، ويأتي في مقدمة هؤلاء فاغنر وشوبنهاور، إذ يصفُ في مرحلة لاحقة موسيقى فاغنر بأنها مفسدة للروح، ويطلقُ عبارة فنان الانحطاط وفيلسوف الانحطاط، على ثنائية فاغنر وشوبنهاور. وهدف نيتشه - حسب جان غرانيه - هو نقض الأوهام التي لا تفسر العالم، كما تدعي بل تحجبه. والأهم مما سلف ذكره هو السؤال بشأن إمكانية تفسير مفاهيم وجودية "الحياة والموت والحب والمرض والمصير" على ضوء فلسفة نيتشه وحياته الشخصية، بمعنى آخر بم تفيدك فلسفةُ نيشته في فن العيش؟
منطق رواقي
ينزعُ الكاتبُ الأميركي إرفين د. بالوم في صياغة مادة روايته "عندما بكى نيتشه" نحو مسلك رواقي إذ يستقي من فلسفة نيتشه وتجاربه الحياتية وصفات لاحتواء المشكلات الوجودية، وبذلك تحل الفلسفة مكان عيادة الطبيب لتشخيص عاهات الروح. يقولُ شيشرون "ما لم يتم علاج الروح وهو أمر لا يمكن بلوغه إلا بالفلسفة، فلن تكون ثمة نهاية لأوصابنا"، كما وصف نيتشه الفيلسوف بأنه طبيب الحضارة، إذن ليست وظيفة هذا النشاط الفكري نحت الأسئلة بشأن الميتافيزقيا فحسب، إنما تفقدُ الفلسفة دورها إذا فشلت في تخفيف المعاناة الوجودية لدى الإنسان وبدوره يشتغلُ د. بالوم على هذا المبدأ في مسعاه الروائي، عندما يستعيدُ محطة مفصلية في حياة نيتشه، حيثُ ترى الفيلسوف الألماني في فضاء الرواية، يتناولُ مكونات فلسفته ويدشنُ مطارحة مع صديقه بروير حول الموت والعقد النفسية والملل، ومفهوم العود الأبدي والخوف من الموت.
ينطلقُ السردُ مع تلقي الطبيب النمساوي الذائع صيته في فيينا بوصفه عبقرياً في التشخيص، رسالةً من لو سالومي مبلغة إياه بضرورة رؤيته لمناقشة أمر في غاية الأهمية، وبينما كان يرغب في تمضية الوقت في فينيسيا بعيدا عن انشغالاته الوظيفية، فإذا به ينشغلُ بأمر الرسالة والمراد بكلام صاحبها عن مستقبل الفلسفة الألمانية، الذي بات على المحك.
وتنتقلُ عدسة السرد إلى مراقبة حيثيات اللقاء الأول بين بروير ولو سالومي، إذ تظهر الأخيرة بشخصيتها المتميزة وثقتها بالنفس وشحنتها المؤثرة، لحد يحجبُ حضورها الطبيب، وما لبث حتى تصارحه بأنَّ هناك صديقاً يعاني من اليأس، معربة عن خشيتها من إقدامه على الانتحار، وإذا وقع ذلك فإنَّه سيكون خسارة كبيرةً ومأساة شخصية فادحة بالنسبة إليها، غير أنَّ وقع الخسارة سيتجاوزها ويطال الثقافة الأوروبية، يرى الطبيبُ بأنَّ محدثته تبالغُ ويسألُ عن اسم الصديق تخبره بأنَّه يدعى فريدريك نيتشه، مدعّمة توصيفها له برسالة فاغنر لنيتشه، وتردف بالقول إنَّ صديقها لا يعرف باللقاء، ولا يعلم أن الرسالة في حوزتها، ومن خلال استفساره يلم الطبيبُ بمرض نيتشه، ومعاناته مع صداع ونوبات الغثيان المتواصلة، وكل ما سمعه بروير من أعراض المرض، ليس جديداً وتضيفُ سالومي التي حازت إعجاب الطبيب بجرأتها، بأنَّ نيتشه قد قابل عدداً من الأطباء بدون أن يستفيد، يتكررُ اللقاء بين الطبيب وسالومي في فيينا يزدادُ إعجاب بروير بزائرته، التى حرمته من متعة خدمتها.
نجح سيناريو سالومي عندما راهنت على البروفيسور أوفيربيك لإقناع نيتشه ليزورَ بروير قبل أن يتمَ اللقاء بين البروفيسور والطبيب يفهمُ مما يُسَربهُ الراوي أنَّ سؤال الزمن يشغلُ بروير، وهو يتساءلُ كيف يمكن أن يمضي اثنتين وأربعين سنة أخرى؟
يمضي المتلقي في متابعة تفاصيل يوميات الطبيب وزياراته إلى المرضى، ومن ثمَّ تتخللُ المحادثاتُ بين بروير وصاحبه فرويد في سياق السرد، إذ يدافعُ مكتشفُ قارة اللاوعي عن أفكاره حول الحلم وما يسميه بذكاء منفصل، لافتاً إلى دور الحلم في حـل المسائل الرياضـــية، ويهمُ فرويد بأن يسألَ عن أخبار سالومي، وكيف اهتدت إلى بروير، ومعرفتها بأنَّه قد نجحَ في معالجة بيرثا التى تحمل اسماً مســتعاراً "أنا" يستعادُ في هذا المقطع رواية سالومي عن أخيها الذي يدرسُ الطبَ وعلى لسانه سمعت باسم بروير.
خطوط مُتقاطعة
نجح سيناريو سالومي عندما راهنت على البروفيسور أوفيربيك لإقناع نيتشه ليزورَ بروير قبل أن يتمَ اللقاء بين البروفيسور والطبيب يفهمُ مما يُسَربهُ الراوي أنَّ سؤال الزمن يشغلُ بروير، وهو يتساءلُ كيف يمكن أن يمضي اثنتين وأربعين سنة أخرى؟ هذا إذا بلغ عمر والده الذي عاش اثنتين وثمانين سنة، أزيد مما سبق تراوده فكرة تدشين حياة جديدة، وهنا يمرُ بذهنه طيف سالومي، وتداهمه أيضاً مريضته بيرثا بمواصفاتها الجسدية، ما ينقص الطبيب ليس المال ولا الشهرة ولا الملذات، لكن شيئاً أعمق من كل ذلك، وتؤرقه أزمة وجودية.
يتفحصُ بروير ملف نيتشه الذي عاينه عشرون طبيباً، قبل أن ينتهي به المطاف إلى فيينا. يريدُ بروير أن يبلغ زائره بأنَّه مختلف في أسلوبه من حيث التعامل مع المريض. لذا يتساءلُ عن المهنة ولا يجدُ أستاذ فقه اللغة غضاضة في الإجابة على الأسئلة التي تدور حول رؤية للحياة والحلم والوحدة والمرض وخيانة الأصدقاء، إضافة إلى دوافع المهنة خلال الحوار الذي يدور بين الطرفين، يحاول بروير الاستفادة من خبرته في لعبة الشطرنج، لاستدراج الفيلسوف إلى مداره، غير أنه يتفاجأ بأن نيتشه يقوض خطته كلما طرح سؤالاً جديداً، وبذلك اقتنع بأن ما يقوم به ليس حواراً، إنما مبارزة فكرية عنيفة، كما اكتشف عدم جدوى نصائح صديقه فرويد في هذه الحلبة، ويتبينُ مما يتداولُ من الآراء أنَّ تبادلَ الأدوار بين المريض والطبيب لم يكنْ مجرد لعبةٍ لسبر أغوار عقل الفيلسوف، إنما إحتاجَ بروير فعلاً لفك عقده، وذلك يتحققُ عندما يتابعُ قدرة نيتشه على تحويل أزماته الشخصية إلى فرصة لانطلاقة جديدة، فالمرضُ أتاح له فرصة التأمل بعيداً عن مؤثرات خارجية والمُعاناةُ بالنسبة لنيتشه كانت مثابات نحو الكمال، وزاد غياب الأب من استقلاليته وخدمت الوحدةُ عملية نضجه الفلسفي وانعتاقه من إكراهات اجتماعية، وأخيراً ينزعُ السحر من سالومي حين يدركُ بأنها تتعاملُ مع الجميع بطريقة واحدة. اختار نيتشه حياةً بطولية بدلاً من الانهمام في وهم السعادة.