الخلافات تطغى على الأداء الحكومي في مواجهة كورونا

تونس: صراع الحكم أزمة صلاحيات أم أزمة قيادة

لم تساعد تداعيات أزمة انتشار فايروس كورونا في تونس السياسيين على تأجيل خلافاتهم، وتجاوزها، حتى تهدأ العاصفة، بل تحولت هذه الأزمة، كغيرها، إلى ورقة يحاول كل طرف الاستفادة منها لصالحه في معركة يتصدرها الرؤساء الثلاثة: رئيس الدولة ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان.

الشعب لا يعنيه من يخضع الآخر لسطوته، سعيد أم الغنوشي أم الفخفاخ

تونس

 أعادت كلمة الرئيس التونسي قيس سعيد، مساء الاثنين، إثارة الجدل حول الصلاحيات بين رؤوس الحكم الثلاثة إلى الواجهة بشكل أكبر، خاصة أن الصراع الثلاثي يهدد معركة البلاد ضد وباء كورونا، وهي معركة تخاض بالحد الأدنى من الإمكانيات في القطاع الصحي، ولم تجد الدولة نفسها قادرة على تمويل هذه الحرب الصعبة، فاضطرت إلى فتح أبواب التبرعات في الداخل والخارج.

كشفت كلمة سعيد أمام مجلس الأمن القومي، الذي يفترض أن يدير المواجهة مع كورونا، أن الرئيس التونسي ظهر فقط ليتكلم إلى الناس ويردّد على مسامعهم نفس ما قاله منذ أيام حين أعلن عن قرار الحجر الصحي الإلزامي. واستعمل نفس المفردات تقريبا في ما يتعلق بدعوة الشعب إلى الالتزام والتضامن.

لكن سعيد لم ينس أن يبعث برسائل خفية للحكومة ورئيسها إلياس الفخفاخ، وللبرلمان في شخص رئيسه راشد الغنوشي، وهو رئيس حركة النهضة، الحزب الذي يدير لعبة المواجهة مع رئيس الجمهورية من وراء ستار.

وإذا كانت الرسائل الموجّهة لرئيس الحكومة تهدف إلى تثبيته في موقع وزير أول، وليس رئيس حكومة يعطيه الدستور التونسي استقلالية عن الرئيس ويجعل مرجعه الوحيد هو البرلمان، فإن الرسائل للغنوشي عندها أبعاد مختلفة، أقلّها تحميله المسؤولية أمام الشعب في فشل خيارات الرئيس بسبب تعطيل مشروع “التفويض”.

وصدرت مؤاخذات على الرئيس سعيد من دوائر مختلفة بعضها من داعميه في الانتخابات بشأن استمراره إلى حد الآن في تمثيل دور الرئيس الاستثنائي الذي يطلق التصريحات والخطب الجذابة دون أن يمر إلى تنفيذ وعوده وأفكاره التي طرحها في الحملة الانتخابية، مع أنه صار في موقع الرجل الأول بالبلاد.

وفاز سعيد في انتخابات أكتوبر 2019 بقرابة الثلثين من أصوات الناخبين، وهي شرعية عالية وقوية. وبدل البحث عن إلغاء الخصوم وإخلاء الملعب من المنافسين، كان على الرئيس سعيد أن يقوّي شرعيته بالضغط على الحكومة لتنفيذ وعود تشغيل الشباب العاطل. وتحسين عيش الفئات الشعبية الفقيرة والمهمشة، التي ظلت لسنوات طويلة تبحث عن حامل لأوجاعها، ووجدت فيه النموذج، ولذلك صوّتت له بقوة.

بالنتيجة، فإن الرئيس لم يعد في حاجة إلى البرلمان كي يطلب مساعدته أو تشريعاته، وعلى العكس فبإمكانه أن يضعه تحت الضغط الشعبي ليوافق. فهل يقدر البرلمان على معارضة مشاريع قوانين لإنجاز مشاريع سكنية وطرقات سريعة أو بناء معامل ومصانع ومؤسسات تشغل الآلاف؟ بالتأكيد لا.

لكن البرلمان، الذي يهتزّ كل أسبوع على وقع الفضائح الجماعية والفردية، يمكن أن يلاعب قيس سعيد في مواطن خلاف غامضة مثل مطلب “التفويض” الذي يريد أن يحصل عليه عبر رئيس الحكومة، فالشعب لا يهتم لهذه التفاصيل، ولا يعنيه من يخضع الآخر لسطوته، سعيد أم الغنوشي أم الفخفاخ.

خطاب الضرورة

لو أن الرئيس دعا في كلمته الأخيرة أمام مجلس الأمن القومي البرلمان إلى إصدار قوانين سريعة لمحاربة الاحتكار والمحتكرين وارتفاع الأسعار، وإقرار منح وأشكال دعم  لفائدة الفئات الضعيفة، ووقف خلاص الفواتير التي تعود عائداتها للدولة مثل فواتير الكهرباء والغاز والماء، ووقف أو تأجيل دفع الضرائب للدولة، لخرجت الجماهير إلى الشارع هاتفة بحياته رغم الحظر الصحي الإلزامي، ولضجت مواقع التواصل الاجتماعي بمديحه.

لكنه اكتفى بالتلميح العابر مثل قوله “هناك من يتخفّى وراء صفته لارتكاب هذه الجرائم ويجب معاقبته”. وكان من المفروض أن يكون أكثر وضوحا وتصريحا بالإشارة إلى النائب في البرلمان الذي ثارت حوله ضجة كبيرة لوقوفه المباشر وراء احتكار المواد الغذائية الأساسية، ومطالبة البرلمان برفع الحصانة عنه ومحاكمته، كذلك إلى النواب الذين ساعدوا على تهريب أحد النافذين من الحجر الصحي وتحدي الجهات الأمنية والقضائية، وإلى رجال أعمال تملأ قصص فسادهم الآذان.

لم يلق تصريح الرئيس سعيد بشأن اعتبار من يحتكر المواد الغذائية في مثل هذه المرحلة التي تمر بها البلاد بـ”مجرم حرب”، تجاوبا من الحقوقيين لكون هذا التوصيف مرتبطا بالمعارك الحربية. وكان على الرئيس، وهو أستاذ القانون الدستوري، أن يكون أكثر دقة في اقتراح صيغ تسمح بتحويلها إلى قانون، بدل التعبير المجازي الذي قد لا يساعد على تنفيذ الفكرة.

يشار إلى أنه بالتزامن مع فترة الحجر الصحي العام الذي فرضته البلاد لمجابهة فايروس كورونا، تفاقمت ظاهرة احتكار عدد من المواد الغذائية، لاسيما الطحين والحنطة (القمح).

وبالنتيجة، فإن الرئيس سعيد أمامه فرص كثيرة ليصير الرجل الأول بلا منازع، فقط عليه أن يغادر مربع التردد، وأن يباشر مهامه كما يريدها الناس، أي الرجل الذي يجلب الحقوق والمكاسب ولا يلتفت إلى ما يقال من نقد أو إشاعات أو تعريض بشخصه في بلد يغلب فيه الكلام والشعارات على ما سواه من فضائل.

لي الأذرع

بدا قيس سعيد في خطاباته الأخيرة مهتمّا برد الصاع صاعين للغنوشي، رئيس البرلمان، الذي يعمل ما في وسعه على الظهور بمظهر الرجل الأول والتقليص من صورة قيس سعيد بزعم أن الدستور يمكّن الرئيس من صلاحيات محدودة ومن إشراف رمزي على المشهد السياسي، وأن رئيس الحكومة ومن ورائه البرلمان هما صاحبا القرار.

ويتفهم المتابعون حساسية سعيد من رئيس البرلمان بسبب أن الغنوشي عمل، ومنذ الانتخابات الرئاسية، على استثمار الفراغ المتأتي عن المرحلة الانتقالية ليظهر كحاكم وحيد في البلاد. يستقبل السفراء الأجانب، ويسافر في كل اتجاه، ويلزم البلاد بتحالفات خارجية لم ينجح الرئيس سعيد بعد في التخلص منها.

وإذا كان سعيد قد أبدى انفتاحا محدودا في كسر التحالف القطري التركي الذي ألزمت به حركة النهضة البلاد باستقبال وزراء خارجية الإمارات والسعودية، وإجراء اتصال هاتفي مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، فإن الرئيس التونسي ظل محاطا بأجندة النهضة من خلال استقبال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ورئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي خالد المشري، وهو جعل دولا عربية وأوروبية تستمر في حذرها تجاه تونس.

وفي سياق تسجيل النقاط على رئيس البرلمان، أثارت كلمة قيس سعيد بشأن المصالحة مع رجال الأعمال المتهمين بالاستفادة من مزايا علاقتهم بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي مخاوف من أن يكون الهدف التراجع عن المصالحة التي تمت في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، وتحميل الغنوشي مسؤولية مسار فشل استعادة تلك الأموال.

لكن بيانا لرئاسة الجمهورية، جاء بعد ساعات قليلة فقط للطمأنة، بيّن أنّه لم ترد في خطاب الرئيس سعيد أي إشارة إلى المصادرة، بل ذكّر بما كان اقترحه منذ سنة 2012 بـ”الصلح الجزائي مع المتورطين في قضايا الفساد المالي حتى تكون المصالحة مع الشعب”.

تنافر البرلمان والحكومة

فيما تستمر مؤسسة الرئاسة في البحث عن فاعليتها، فإنها تحتاج إلى صبر طويل لإدارة ملف الخلاف مع البرلمان كونه الفضاء الذي يتمترس فيه الخصوم من جهة، ومن جهة ثانية فهو يستمر بالدفاع عن صيغته الدستورية كمؤسسة مرجعية، ولو أدى الأمر إلى وضع العراقيل أمام الحكومة ومن ورائها مؤسسة الرئاسة التي يحسب عليها رئيس الحكومة وفريقه.

وجاءت حكاية التفويض الذي تطلبه الحكومة من البرلمان ليكتشف الرئيس سعيد أن البرلمان بمثابة عش دبابير ليس من السهولة الاقتراب منه، خاصة أن التحالفات فيه تتغير باستمرار ودون أرضية فكرية أو سياسية واضحة، فقط الحفاظ على المصالح والنفوذ.

ويتخوف أغلب النواب، خاصة الذين لا ينتمون إلى التحالف الحاكم، من أن يتم استثمار التفويض، الذي تقول الحكومة إنه يدوم شهرين فقط، وهو مرتبط بتسهيل الإجراءات الخاصة بمواجهة وباء كورونا، في مسائل أخطر تتعلق بمصير البرلمان نفسه في ظل حديث شائع عن أن الرئيس سعيد قد يجد فرصة أزمة الطوارئ لحل البرلمان وتحقيق رغبته في الاستفتاء لتغيير النظام السياسي من ديمقراطية ليبرالية إلى ديمقراطية شعبية تقلب هرم السلطة وتضعه بين أيدي سكان المناطق الفقيرة والمهمشة عبر تصعيد ممثليها بشكل مباشر بدل انتخابات تقوم على المال والمحسوبية والوعود غير القابلة للتطبيق.

ولجأ نواب الكتل الأقلية المعارضة إلى الاحتماء بحركة النهضة التي تلعب على حبال متعددة، فهي من ناحية تقف مع الحكومة وتمتلك أعلى تمثيلية فيها قياسا ببقية الأحزاب، ومن ناحية أخرى تريد أن تظل في المعارضة لتقطع الطريق على أي تعديلات دستورية قد يطلبها الرئيس سعيد. وقد نجحت في استقطاب أهم كتلة في البرلمان ورهنتها لحساباتها، وهي كتلة حزب “قلب تونس”، الذي يرأسه رجل الأعمال والإعلام  نبيل القروي، فضلا عن كتلة ائتلاف الكرامة الحليف الدائم للنهضة.

أدى هذا الوضع إلى تكوين تحالف هجين يسيطر على البرلمان تضغط به النهضة في كل الاتجاهات لتحقيق مصالحها وإرباك شركائها في الحكم. ووجه سالم الأبيض، القيادي في حركة الشعب (قومية ناصرية) والشريك في التحالف الحكومي رسالة مفتوحة إلى الغنوشي على صفحته بفيسبوك حثه فيها على أن يختار بين المعارضة أو الحكم.

وقال الأبيض، الذي كان وزيرا للتربية في حكومة الترويكا الثانية برئاسة القيادي في النهضة علي العريض، إن على الغنوشي أن يدرك بأن “السياسة التي كان ينتهجها حزبه في زمن حكومتي الحبيب الصيد ويوسف الشاهد، بأن يكون حزبا حاكما ومعارضا في الآن نفسه، قد ولّت إلى غير رجعة، وأنه يقود اليوم حزبا يحكم، وعليه أن يترك المعارضة لمن اختارها سبيلا، ما يقتضي دعم الحكومة وليس عرقلتها وخلق المشاكل التي تثنيها عن ممارسة مسؤوليتها”.

وأضاف أن “الأمر لا يتعلّق بالتفويض من عدمه، وإنما يتعلق بهذا التحالف العجيب بين حركة النهضة بوصفها حزبا حاكما مع اثنين من أحزاب المعارضة هما حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة، من أجل التضييق على الحكومة في مواجهتها وباء كورونا”.

وقد سبق إلى الإشارة إلى هذه المفارقة نبيل حجي القيادي في التيار الديمقراطي، الشريك في التحالف الحكومي، حين قال إن “هذا التحالف لا علاقة له بالائتلاف الحكومي وهو ائتلاف غريب بين حزب حاكم وأحزاب معارضة” وإن “هذا الائتلاف لا يعبأ بمصلحة البلاد ولا بكورونا”.

فرص التغيير

دفع الصراع بين الرؤوس الثلاثة للنظام بالنائب حافظ الزوابي إلى الدعوة لحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة على أمل الخروج من النفق الذي باتت البلاد تعيش داخله. لكن الهروب إلى انتخابات جديدة لن يحل مشكلة النظام السياسي الهجين الذي تعيشه تونس منذ 2011، فأي انتخابات في المدى القريب ستعكس بالضرورة حالة التفتت والتشظي في البرلمان.

لكن مراقبين يقولون إنه بدل البحث عن الانتخابات، أو الاستمرار في لعبة تسجيل النقاط بين الرؤساء الثلاثة، فإن الفرصة مواتية أمام الجميع لإثبات قدرة الثورة على التغيير، وأن يكف ممثلوها عن لعبة اتهام الواقع والاستغراق في نظرية المؤامرة ليستمروا في ترديد الخطاب الشعبوي الذي يقتات على المظلومية.

وتسمح حالة الطوارئ بفرص تغيير كبيرة تقوم أولا على إشراك الأطراف الاجتماعية والسياسية في مهمة الإنقاذ، لأن الأمر لن يقف عند ربح معركة الوباء، فهي مرحلة ستمر أيا كان الأداء الحكومي، لكن المرحلة الأشد تأثيرا ستكون مرحلة الركود الاقتصادي وما ينشأ عنها من خسائر للدولة والمؤسسات الخاصة وانعكاسها على سوق الشغل، وستحتاج كل الأطراف إلى تضامن أكبر والقطع مع الشعارات الشعبوية السائدة حاليا التي تستهدف رجال الأعمال والمستثمرين في حملات واسعة لا مبرر لها، خاصة أن العشرات من رجال الأعمال قد تبرعوا لفائدة الدولة سواء بالأموال أو بالتسهيلات للمساعدة في مواجهة الوباء.

وبالتأكيد، هذا لا يمنع من الاستمرار في مسار مكافحة الفساد واسترداد أموال الدولة التي قد تكون لدى فئة من رجال الأعمال والاتفاق على صيغ عملية لتسوية الخلافات المالية والقانونية.

بالتوازي، فإن المعركة مع الوباء تعطي تونس فرصة من ذهب لخوض معركة التقشف بجدية أكبر، والمقصود هنا ليس تقليص الدعم الموجه للفئات الاجتماعية الهشة التي تحتاج إلى المساعدة، لكن التقشف الحكومي، وقد بدأه رئيس الحكومة حين قرر وقف تمتيع كوادر الدولة، وهم بالآلاف من الامتيازات الخاصة بالبنزين طيلة فترة الحجر الصحي، يمكن أن يكون طريقا للتوفير، خاصة ما تعلق بامتياز السيارات الوظيفية، التي ترهق كاهل الدولة بالملايين من الدنانير (الدولار = 2.8 دينار).

ويمكن أن توفر تونس فرصة لإعادة التوازن لاقتصادها من خلال فرض هدنة اجتماعية لثلاث سنوات على الأقل تتوقف خلالها مفاوضات الزيادة في الأجور، وترشيد عملية توظيف الأموال المتأتية من القروض سواء من الصناديق المالية الدولية (صندوق النقد، والبنك الدولي) أو من القروض المباشرة من مؤسسات أوروبية أو عربية أو بشكل ثنائي، وإيلاء الأولوية لدعم الاستثمارات وتوفير مواطن العمل.

إن إحدى مزايا كورونا أنها تسمح للدولة بأن تتكلم بصوت عال لإقناع الناس بما كانت تعجز عنه في الأوقات العادية، ومثلما أجبرتهم على الحجر الصحي، يمكنها أن تجبرهم على التقشف.