لا يوجد نفق مظلم دون منفذ مضيء..
"المعرفة تقودك إلى الله".. كتاب استشرف أزمة لبنان
“المعرفة تقودك إلى الله” كتاب جديد للبروفسور فيليب سالم (220 صفحة من القطع الوسط – صادر عن المكتب الإعلامي للشرق الأوسط – بيروت)، يتضمن ندوات له في الدين والفلسفة والعلم والطب والسياسة، على فضائية “تلي لوميار” اللبنانية.
كتاب استبق من خلاله سالم في طروحاته حول الثورة والمجتمع المدني والطبقة السياسية الفاسدة وسواها ما يحصل حاليًا في لبنان، وأدرك منذ 2011 أن لبنان ذاهب إلى “الأزمة الكبيرة: أزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة”. طرح المؤلّف قضايا الساعة واقترح حلولاً لمسائل معقّدة تؤرق اللبنانيين. المقابلات التي أجرتها المحطة مع فيليب سالم بين 2011 و2017، قاربت مختلف المسائل التي ينتظر الناس حلولاً لها في السياسة والاقتصاد والاجتماع.
في مقدمة الكتاب، رأى البطريرك الماروني بشارة الراعي، أن سالم “أخرج ما في قلبه من إيمان ومعرفة وخبرة حياتية، ووضعنا أمام تأملات رفيعة في الحياة، وصفحات رائعة من السموّ”، واصفًا الكتاب بأنه “شهادة حياة تتضمّن الوجهين الفلسفي واللاهوتي”.
للتذكير، في بكركي (شمال بيروت)، وخلال مؤتمر اقتصادي اجتماعي (9 أكتوبر 2018) وبحضور البطريرك الراعي ومطارنة وسياسيين وأكاديميين واقتصاديين ومغتربين بارزين، دعا سالم إلى “فصل الدين عن الدولة وفصل الدين عن التربية، لأن إلغاء الطائفية السياسية وحدها لا يكفي”. كما دعا إلى “بناء الدولة المدنية، دولة الوطن والمواطنة التي ترفع الناس من رعايا إلى مواطنين، وتأخذنا إلى الحرية والحضارة”، وسط ترحيب من البطريرك الماروني والحضور.
يتطرق سالم في كتابه إلى الواقع السياسي اللبناني و”سقوط” الطبقة السياسية التي تتحكّم بالبلاد منذ عقود طويلة، قائلا “الساسة في لبنان لا يريدون رفع الوطن من القعر. كل زعيم هو الدولة. وهو مستزلم لدولةٍ في الخارج على حساب لبنان”.
ويؤكد الكاتب “أنا أؤمن بثورة الفكر، لا بثورة النار والسلاح”. ويضيف “خلاص لبنان في مجتمع مدني يستلم الزمام، يغيّر الطاقم السياسي، يقيمُ الفصل بين الدين والدولة، وصولاً إلى الدولة المدنيّة”. ويقول أيضًا “الدويلات الطائفية، لا يناسبها بناء وطن للجميع، يكون فيه المواطنون متساوين في الحقوق والواجبات”.
لا يتبنّى فيليب سالم “الثورة” على الواقع السياسي والاجتماعي القائم في لبنان فحسب، بل يقترح حلولاً واقعية بأن “يتولّى المجتمع المدني مهمة التغيير في لبنان عبر قيامه بعملٍ كبير وبشكل منظّم ودقيق ولا عنفي، ولا بديل من ذلك للوصول إلى مرحلة تغيير الواقع السياسي”.
ويرى سالم، أنه لو كانت هناك دولة لكانت هذه الزعامات والمرجعيات السياسية “الفاسدة” قد اختفت، وهي تطالب زورًا بقيام الدولة، بينما هي في الواقع لا تفكّر إلاّ بمصالحها وليس بمستقبل الوطن والناس.
أما الدويلات الطائفية فلا يناسبها بناء وطن للجميع، يكون فيه المواطنون متساوين في الحقوق والواجبات. لذا، يرى سالم أننا “نحتاج إلى وقت طويل للوصول إلى الدولة المنشودة”، ولكن أكثر ما نحتاجه هو “وجود رجال ونساء لديهم القدرة على الرؤية الصحيحة لبناء وطن، لأنه لا يمكننا بناء دولة بأشخاص تابعين ومتزلفين جاؤوا جراء محاصصة نيابية ووزارية”.
أما المجتمع المدني، برأي سالم، فهو البديل الطبيعي لمفهوم “التوارث السياسي” القائم في لبنان. هذا “التوارث” برأيه “هو نتيجة حتمية للتخلف السياسي والحضاري. وقبول اللبنانيين به تخلّف يناقض الديمقراطية. مع الأسف، لقد سمحنا بكل هذا الانحدار من خلال سياستنا الخاطئة”.
إن فيليب سالم يدرك حجم التضحيات التي يتوجب على الحراك المدني أن يبذلها، لأنه “بين الثورة والحصول على الحرية مسافة شاسعة، فيها الكثير من التضحيات. لكن الثورة، على الأقل، فتحت الأبواب وأصبح بالإمكان السير باتجاه الشمس والحرية، وما نراه هو بداية عصر جديد ومهمّ. العلم وحضارة المعرفة كفيلان بخلق جيل جديد، لذلك هناك أمل كبير بالتغيير”.
لكن سالم يدعو إلى قيام “مجلس حكماء” يكون رأسًا للحراك، على أن يتمتع هذا المجلس بالخبرة والانتماء الحقيقي للبنان وشعبه، وأن يتحرك بشكل مدروس ومنظّم.
الفساد السياسي الذي يستشري بشكل كبير في لبنان، مصدره السلطة السياسية. هنا يتساءل سالم “كيف يثق الشعب بسياسي يتكلّم على الفساد وهو فاسد و’أزلامه’ فاسدون والمنتشرون اللبنانيون أيضًا لا يثقون بالسياسيين اللبنانيين؟ وهذه الثقة، لا تُستعاد إلاّ حين تتشكّل دولة حقيقية”. لكنه لا ينسى أن الطبقة السياسية الحالية لا تريد بناء دولة حقيقية، لذا يصبح الحلّ في ملعب المجتمع المدني. والمشكلة في لبنان ليست في القوانين والدستور بل في الفساد والتخلّف السياسي.
وإذا كان لكل بلدٍ “ربيعه”، فإن لبنان لديه الفرصة ليشكّل “ربيعه” من خلال المجتمع المدني، ومن واجب هذا المجتمع أن يثور على الواقع لتغييره بشكل جذري.
“من أوصلنا إلى الأسفل لا يمكنه رفعنا إلى الأعلى” يؤكد فيليب سالم. وهو يرى أنه ليس من مصلحة الطبقة السياسية التغيير الحقيقي لقيام دولة فعلية سيؤدي قيامها إلى سقوط جميع هؤلاء الزعماء. الطبقة السياسية لا تريد إصلاح الفساد، وهناك مدرسة سياسية تقوم على المنافع الشخصية قبل أية منفعة عامة.
تؤرق فيليب سالم “الثورات” العربية التي استخدمت سلاح العنف والقتل بشكل عبثي مقيت، ودمَّرت الحجر والبشر، وحوّلت الإنسان إلى مجرم أو لاجئ. لذا، فهو لا يؤمن “بثورة النار وثورة السلاح، بل بثورة الفكر، ثورة العمل، ثورة الحضارة”. ويؤيّد قيام المجتمع المدني وليس مجتمع السياسيين، وفَصلِ الدين عن الدولة وقيام الدولة المدنية. أما “الإحباط فليس خيارًا لنا، لأنه أكبر خطر على مستقبل لبنان”. ويؤكد أن الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان منذ الاستقلال إلى اليوم فشلت وليس من مصلحتها أن يتمّ التغيير، لأن الزعماء في لبنان يعيشون على موارد الدولة، ومع ذلك يعملون على هدم الدولة ليقفوا على حطامها!
ويتوقع سالم أنه حين يكون هناك تغيير ودولة فعلية سيسقط كل هؤلاء الزعماء. ويرى أن “التغيير ينبع من الداخل، وأكبر خطرٍ هو أن يشعر اللبنانيون باليأس من عدم قدرتهم على التغيير، وهذا أكبر خطأ، لأنه علينا التمسّك بالأمل دومًا”. ويؤكد “نحن نحتاج إلى طبقة سياسية جديدة مثقّفة لديها ولاء وحيد ومطلق للبنان. ودور المجتمع المدني أن يقوم بعملٍ كبير وبشكل منظّم ودقيق ولا عنفي، ولا بديل من ذلك للوصول إلى مرحلة تغيير الواقع السياسي”.
ويبدي فيليب سالم خشية على لبنان، لذا يدعو إلى قيام “سياسة واضحة تلتزم الحياد في الخلافات الإقليمية المُستَعِرة لنحمي أنفسنا. ولا أقصد القول إني مع سياسة ‘النأي بالنفس’، ولكن علينا أن نمتلك الرؤية السياسية الصحيحة كي نتمكّن من تجنّب المشاكل. حين نكون على الحياد بشكل فاعل علينا أن نمتلك سياسة صحيحة”.
يعارض سالم من يعتقد أن المدرسة السياسية التقليدية ستجد حلولاً لمشاكل لبنان، ويرى في هذا الاعتقاد وهمًا كبيرًا. ويرى مجددًا، أن المجتمع المدني في لبنان ينتظره دور كبير، لأنه الأمل الوحيد المتبقّي للإصلاح.
في مقدمة الكتاب، يكتب الدكتور إلياس الحاج، نقلاً عن سالم، أن “خلاص لبنان في مجتمع مدني يستلم الزمام، يغيّر الطاقم السياسي، يفصل بين الدين والدولة، وصولاً إلى الدولة المدنية”.
يؤكد سالم في النهاية “أنا لا أقطع طريقًا، بل أقدّم زهرة. أنا لا أحمل بندقية، بل أقبّل الآخر وأعانقه”. ويرى أنه لا يوجد نفق مظلم دون منفذ يوصلك إلى الضوء.