عشت لأروي..

ماركيز يبوح بسيرته في الحجر المنزلي

لو تسنى لغابريال غارسيا ماركيز أن يعيد كتابة سيرته "عشت لأروي" في الحجر المنزلي، ألا يمكن أن نتوقع إنتاجا فريدا من علم نفس سلوكي عميق، لأنه سيبوح أكثر مما يتذكر.

كرم نعمة

يمنحنا الحجر المنزلي فرصة لا تتكرر لإعادة ترتيب الحوار مع الذات وكتابة السيرة، بعد أن تحرر الواحد منا من الصخب المحيط، إنها فرصة أيضا كي نحرر صوتنا بطريقة ما لنعيد اكتشاف أنفسنا من دون أي  افتعال.

السيرة الحقيقية هي سيرة الذات الداخلية والمنولوج الحواري مع النفس من دون شوائب، وليس علاقتنا بالأمكنة والناس، صحيح أنها مكملة ولا غنى عنها، لكنها كانت متاحة في كل السير التي كتبت وجمّلت لنا هذا الفن. الفرصة الآن مواتية لسيرة ملهمة وقد أتاحها لنا كورونا من دون أن ننتظر ذلك.

فالإنسان عندما يكتب سيرته في حوار بوح مع النفس دون أن يتدخل فيه كائن آخر، يصبح بمثابة المحامي والمعالج والصديق. مثلما يكسب ثقة نفسه عندما تنتهي فكرة الكذب على النفس.

السيرة في الحجر المنزلي بوح مستمر وصادق، إن كان شفهيا أو تحريريا، ينتجه حوار الإنسان مع الذاكرة ومع القلب، يعترف ويبرر ويدافع ويعبّر عن الندم والفخر والامتثال، يكفيه في النهاية أن يكون صادقا لأنه سيحوّل الذكريات المبهمة إلى جمل بليغة، ومثل ذلك لا يكون متاحا له عندما يشرك الآخرين والأماكن في سيرته.

دعونا نفترض لو تسنى لغابريال غارسيا ماركيز أن يعيد كتابة سيرته “عشت لأروي” في الحجر المنزلي، ألا يمكن أن نتوقع إنتاجا فريدا من علم نفس سلوكي عميق، لأنه سيبوح أكثر مما يتذكر؟

ما الذي فعلته دوريس ليسنغ في كتابها “سجون نختار أن نحيا فيها”؟ إنها في حقيقة الأمر كتبت سيرة التفكير المتراجع لدى ثقافة القطيع التي كانت سائدة ومستمرة اليوم، وهي تدون سيرتها الشخصية مع الأحداث في مقالات فذة بامتياز.

وعندما تكون ليسنغ ملهمة بأكثر من ذلك يتاح لأي منا التعلم بعمق من أفكارها ونحن نحاور أنفسنا في فرصة نادرة منحتنا إياها الحياة من دون أن نتمناها أو ننتظرها.

عندما أطلق واتساب الشهر الماضي تقنية “التدمير الذاتي” للرسائل، لم يكن التعبير موفقا إذ يقترن للوهلة الأولى بأنه يخصنا تحديدا، لكنه في الواقع يتحدث عن تدمير كتابة علاقة سيرتنا بالآخر، إذا سيمكن التحديث الجديد المستخدمين من إمكانية اختيار انتهاء صلاحيات الرسائل وتدميرها ذاتيا بعد ساعة أو يوم أو أسبوع أو عام واحد.

بينما منحنا الحجر المنزلي تطبيقا مفتوحا ولا يحتاج إلى توثيق بل فرصة مستمرة، إلى اليوم على الأقل، للبوح مع النفس من دون خجل أو أحساس بالوهن العقلي والاعتراف الصادق، وهو مستوى متقدم عن كل ما كان يجري أمام محراب الرب المقدس.

السيرة هنا ستبقى محفوظة في الذهن وإذا شئت على الورق، وأهميتها تكمن في قدرتها العالية على المصالحة مع الذات من دون أن يكون ثمة طرف آخر فيها.