وكالات..

تقرير: 120 عاماً من الصراع في اليمن (10-10)

صادق الأحمر زعيم قبائل حاشد- أرشيفية

كيوبوست

يؤدي الحوثيون في شمال اليمن والجنوبيون في الجنوب دوراً بارزاً في الأحداث الجارية في البلاد، وكلاهما له جذور تاريخية ومبررات خاصة به، بغض النظر عن الكيفية التي تنظر خلالها الأطراف الأخرى إليهما. وعند فحص الأسباب التي خلقت هذا الواقع في البلاد فسنجد الدوافع الدينية ودوافع الهوية هما الأساس في الصراع، وإن كانت هناك دوافع أخرى تدور حول المظلومية ومحاربة الفساد ومقاومة التدخل الأجنبي.. وما إلى ذلك.
ولا تُعد الأزمة الحالية في اليمن سوى امتداد لرحلة صراع طويلة خلال المئة والعشرين عاماً الماضية[1]*، وتكاد تكون أسباب الصراع وعدم الاستقرار هي ذاتها خلال موجات الصراع المختلفة؛ وهو ما يجرنا إلى التساؤل في ما إذا كان بالإمكان يوماً ما التخلص من تلك الأسباب أو إدارتها بشكل ما حتى تهنأ الشعوب بالاستقرار والنمو والرخاء.

الدين كعامل في الصراع

ولعل الدين والمذهب هما العاملان الأكثر بروزاً وقوة في الصراع خلال الفترة التي شملها هذا البحث؛ ويمكن ملاحظة هذا الاستنتاج من خلال حالات الصراع التي تحدثنا عنها، فعندما قاوم أبناء اليمن الشمالي الوجود العثماني كان الدافع الأساسي هو حماية الخلافة الإسلامية ودولة الإمامة الزيدية، وكان زعيم تلك المقاومة الشرسة هو إمام الزيدية يحيى بن حميد الدين، الذي استطاع استمالة القبائل اليمنية إلى جانبه، بحكم زعامته الدينية وتاريخ سلالته التي حكمت -تاريخياً- صعدة وما حولها. 


وحتى عندما قامت الثورة في شمال اليمن ضد حكم الإمامة الملكية، كان للدين دور مهم؛ فجماعة الإخوان المسلمين أدَّت دوراً في الثورة، أملاً في إقامة دول إسلامية في اليمن؛ لكنها لا تشبه حكم الإمام الزيدي. ثم عندما دعمت الجماعات الإسلامية وحزب التجمع اليمني للإصلاح والإخوان المسلمون الحكومة اليمنية في حربها لقمع محاولة استقلال جنوب اليمن سنة 1994، كان لدوافع دينية تتمثل في عدم التفريط في “الوحدة الإسلامية” والسماح للجنوبيين بالعودة إلى الفكر “الاشتراكي الكافر”. وأخيراً، عادت الزعامة الزيدية الدينية إلى الواجهة من خلال حركة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، والذين تمكنوا من السيطرة على معظم أجزاء شمال اليمن منذ عام 2015.

للدين أثر أقل نسبياً في الصراع في الدول التي حكمت تاريخياً أجزاء مختلفة من جنوب وشرق اليمن؛ على سبيل المثال، نشأت منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين خلافات بين الجاليات الحضرمية في جنوب شرق آسيا لأسباب دينية تتعلق بمكانة آل البيت وقواعد التعامل معهم، وقد وصلت تلك الخلافات إلى الوطن مؤثرة بعض الشيء -ولفترة محدودة- على الاستقرار في الدولة الكثيرية بحضرموت. ومع ذلك، كان الأغلب على آل البيت في حضرموت الابتعاد عن التدخل في الشؤون السياسية أو محاولة أداء أي دور سياسي، واقتصر دورهم على الشفاعة لدى السلاطين والوساطة والنصح؛ وذلك بحكم وجاهتهم وطريقتهم الصوفية.


لكننا عندما نتحدث عن تأثير أقل للدين في الجنوب؛ فإننا ينبغي ألا ننسى أيضاً الدور السلبي الذي أداه الفكر الاشتراكي على الدين بعد أن تبنته دولة الجنوب بعد الاستقلال سنة 1967. لقد كان هذا الفكر سبباً أساسياً للصراع بين الجنوب والشمال لاحقاً، إلا أنه تم التخلي عنه بعد عام 1990.

اختلافات الهوية الوطنية

المجتمعات في اليمن متمايزة جداً، وغالباً ما تقاسم حكم اليمن وجنوب الجزيرة العربية دول صغيرة وأُسر حاكمة وسلاطين؛ حكمت الدولة الكثيرية أجزاء من حضرموت -مثلاً- لمئات السنين قبل أن تُضَم إلى دولة جنوب اليمن نهاية الستينيات. والحال نفسها تنطبق على سلطنة لحج وسلطنات ومشيخات عديدة أخرى في جنوب اليمن؛ حيث يشعر بعضهم باختلافهم عن بعض، لكنهم يشعرون بشكل جماعي باختلافهم الكبير عن شمال اليمن.

في المقابل، تعاقبت الحكومات في شمال اليمن منذ عهد الإمام على الادعاء أن الجنوب ككل جزء من سيادة الشمال؛ وهو الأمر الذي تسبب مراراً وتكراراً في نزاعات بين الشمال والجنوب، بدءاً بالنزاعات بين الأئمة والحكومة الإنجليزية في عدن والجنوب، ومروراً بالنزاعات الحدودية بين الدولتَين الجنوبية والشمالية بعد استقلالهما، ووصولاً إلى حرب الانفصال 1994، وأخيراً الصراع الدائر حالياً بسبب مطالبة الجنوبيين باستعادة دولتهم. وبالطبع يدَّعي الحوثيون أن اليمن واحد، وقد سبق أن وصلوا إلى عدن قبل أن يتم دحرهم منها، وهم يعتبرون المناطق المحررة اليوم، ومعظمها في الجنوب، تحت الاحتلال، تماماً كما كان ينظر الأئمة الزيدية إلى هذه المنطقة، وقد تحدثنا عن مثال ذلك في قصة مطالبة سلطان لحج، في منتصف القرن الماضي، بالانضمام إلى جامعة الدول العربية.

وبالإضافة إلى اختلافات الهوية والتاريخ والجدل الذي لا يزال دائراً حولها، فإن المجتمعات اليمنية شديدة الاستقلالية، وشديدة العداء للأجانب؛ خصوصاً في المناطق القبلية، والتي تظهر معالمها أكثر في شمال اليمن. هذه الغريزة الاستقلالية تجعل من الصعب على الحكومات السيطرة على القبائل، وبدلاً من ذلك، عليها مشاركة الحكم معها بطريقة ما؛ بحيث لا تهمشها ولا تنقص من قوتها، وقد رأينا كيف أدت محاولات القضاء على قوة وتأثير القبيلة في الشمال أثناء الستينيات والسبعينيات إلى زعزعة الاستقرار، كما رأينا العداء الذي نشأ تجاه التدخل العثماني.

وفي جنوب اليمن، حدث أمر مشابه في ما يتعلق بالتعامل مع القبائل؛ فعلى الرغم من أن الحكومة قد تمكنت بالفعل من تقليص دور القبيلة ونزع سلاحها لتأسيس دولة مدنية، وعلى الرغم من نجاح ذلك الإجراء ودوره في فرض سيادة الدولة بقوة؛ فإنه لم يكن مقبولاً من بعض القبائل. أما في ما يتعلق بالتعامل مع الأجانب، فقد قاوم الجنوبيون الاستعمار؛ لكن الغالب كان تصالح حكام السلطنات والمشيخات الجنوبية مع الإنجليز وعقد معاهدات الصداقة والحماية معهم، وكان هذا طريقاً أفضل من حرب طويلة مفتوحة غير متكافئة. توصل العثمانيون إلى اتفاقات مشابهة مع الأئمة في شمال اليمن بعد أن دفعوا ثمناً باهظاً من الأموال والأرواح، وكان ذلك الاتفاق يعترف بسلطة الإمام مقابل اعتراف الإمام بسلطة العثمانيين؛ أي تشاركَ الطرفان حكم البلاد؛ فكان ذلك أدعى -نسبياً- للاستقرار.

ربما تكون العوامل الدينية والمذهبية أبرز أسباب الصراع في البلاد، جنباً إلى جنب مع طبيعة التركيبة الاجتماعية والخصائص القبلية، وتباين الهوية والتاريخ وغريزة الاستقلالية، ومع ذلك سوف نجد أن هناك أسباباً أخرى عديدة شملت شحّ الموارد وما تسببه من صراع للسيطرة عليها، وسوء إدارة البلاد من قِبل الحكومات والدول المتعاقبة على حكمها، والفساد والمحسوبية، والدور المهم للمغتربين، وتبدُّل الولاءات بسبب فاعلين خارجيين واختلاف موازين القوى، والقومية العربية، والتأثر بما يجري من ثورات في المحيط العربي؛ فهذه الأسباب جميعها تقريباً كانت حاضرة كأسباب للصراع طوال الـ120 عاماً الماضية، ولا تزال تؤرق المواطن اليوم بلا هوادة.


لذلك كله، لا يمكن وضع وصفة سحرية لإخراج اليمن من مأزقه وما تعانيه الدولة من فشل في التغلب على التيارات القديمة التي يتم إحياؤها بإلهام من الماضي وبدافع من إخفاق التجربة الحالية؛ أقله في نظر السكان والمراقبين الواقعيين. لكن هذه الحقائق لا تضمن بأية حال من الأحوال أن عودة أنظمة الحكم القديم سوف تقضي معها على معضلة الصراع في البلاد، ما لم يتم القضاء أساساً على الأسباب التي قادت إلى انهيارها بالمقام الأول، وهنا يأتي دور التعلم من دروس الماضي، والاعتدال والعمل المؤسسي والواقعية والخبرة والعلاقات المثمرة لبناء مستقبل أفضل.

[1] هذه الفترة التي شملها هذا البحث، بغض النظر عما كان قبلها.