بكين تواجهه خطراً كبيراً يفرض عليها التحلي بالحكمة لمحاولة تغيير المسار

أخطاء السياسة الخارجية تهدّد الريادة الاقتصادية للصين

ريادة بكين العالمية على المحك

واشنطن

يردد القادة الصينيون باستمرار أن العالم يشهد اليوم "تغييرات لم تحدث في قرن كامل". وما يقصده هؤلاء هو أن ميزان القوة العالمي أصبح يميل لصالح بلادهم، التي نجحت في الاستفادة من تراجع أدوار دول كبرى تقليدية مثل بريطانيا وفرنسا وخاصة الولايات المتحدة التي سيطر على أدائها تناقض الأجندات. لكن ذلك قد يهدد الريادة الاقتصادية الصينية التي كانت لعقود تتم في صمت وبعيدا عن الأضواء.

ويقول محللون إنه بالرغم من قدرة الصين على دخول ملاعب جديدة وباستراتيجيات فاعلة تركز على بناء علاقات مصالح مع دول العالم الثالث، إلا أن الغرور الصيني قد يقود إلى نتائج عكسية، وأن القيادة الصينية تواجه خطر أن تؤدي محاولتها استغلال ما يفترض أنها نافذة تتيح فرصة التحول إلى قوة عظمى، إلى غلق هذه النافذة، بحسب مينكسين بي وهو من أصل صيني وأستاذ للعلوم السياسية الأميركي وخبير في العلاقات الأميركية الآسيوية.

ويرى مينكسين بي في تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء أنه خلال أربعة عقود منذ وفاة الزعيم المؤسس لجمهورية الصين الشعبية ماو تسي تونغ، توفرت بيئة خارجية ساعدت الصين على الخروج من دائرة الفقر والعزلة لتصبح قوة اقتصادية عظمى.

والآن تتعرض العلاقات التي طورتها الصين بشق الأنفس مع الاقتصاديات المتقدمة في الغرب للتآكل، مما يهدد استمرار النمو الاقتصادي للصين وحصولها على الاستثمارات والتكنولوجيا التي تحتاجها، وهذا واضح بشكل جلي في صراعها الاقتصادي مع الولايات المتحدة وأبرزه كان في الصراع حول شركة هواوي.

ويقول الخبراء إن الصين وبالرغم من التقدم الذي تحصل عليه، فهي بحاجة إلى تحالفات اقتصادية دائمة مع الدول الكبرى.

ليس هذا فحسب بل إن التحدي الذي تواجهه الصين على الصعيد الأمني أصبح أخطر. فرغم تحقيق القوات المسلحة الصينية قفزات تكنولوجية كبيرة خلال السنوات الأخيرة، بدأت الولايات المتحدة تعتمد بفاعلية على حلفائها لتعزيز نفوذها في محيط الصين.

وقد وقعت واشنطن اتفاقا لتزويد أستراليا بغواصات نووية، إلى جانب زيادة التقارب مع كل من اليابان والهند وأستراليا، وهو ما يعني زيادة عدد الخصوم الذين قد تواجههم الصين إذا ما تورطت في أي نزاع.

وقد يقنع القادة الصينيون أنفسهم بأنهم لا ذنب لهم في هذه التطورات. فقد واجهت الصين مشاكل جيوسياسية بوصول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى السلطة مطلع العام 2017 حيث أدت سياساته التجارية الحمائية وسيطرة الصقور المناوئين للصين على إدارته إلى تسريع نشوب المواجهة بين بكين وواشنطن.

ثم جاء تفشي جائحة فايروس كورونا المستجد عام 2020 ليؤجج التوترات الأميركية – الصينية. فالرئيس ترامب كان يعتقد أن تعامل الصين السيء مع الفايروس في البداية كان جزءا من مؤامرة استهدفت حرمانه من الفوز بولاية رئاسية ثانية في انتخابات نوفمبر 2020. كما أن الاضطراب الشديد في سلاسل الإمداد والتوريد نتيجة الجائحة دفع الدول الغربية إلى تقليص اعتمادها على الصين و تقصير سلاسل الإمداد.

والحقيقة أن الأمر لا يتعلق بسوء الحظ وإنما بالسياسات الخارجية المجحفة التي تمارسها الصين مع جيرانها مثل بناء الجزر الصناعية في المناطق المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، وممارسة الضغوط الاقتصادية مع شركائها التجاريين مثل أستراليا، وتبنى دبلوماسية “الذئب المحارب” الوطنية المتطرفة. هذه السياسات لعبت دورا أكثر أهمية في بلورة الموقف الغربي المناوئ لبكين حاليا.

ويرى مينكسين بي، الذي يعمل حاليا أستاذ الإدارة العامة في كلية كليرمونت ماكينا كوليدج في ولاية كاليفورنيا الأميركية والباحث غير المقيم في برنامج آسيا بمركز أبحاث مارشال فاند الألماني، أن السبب وراء تبني الصين لهذه السياسات غير البناءة يتمثل في عملية صناعة القرار الصيني حاليا، والتي باتت تفتقد إلى الميكانيزمات التقليدية للتحكم في المخاطر.

وخلال أغلب سنوات ما بعد ماو تسي تونغ ومنذ فترة حكم خليفته دينج شياو بنج ضمنت القيادة الجماعية الالتزام بالسياسة الخارجية لدينغ والمتمثلة في “عدم الظهور القوي” على المسرح العالمي. كما أن تبنى أي مبادرات سياسية كبرى كان يحتاج إلى موافقة اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم بالإجماع. ورغم أن هذه الآلية ليست مثالية وكانت سببا في تعثر الإصلاحات الاقتصادية في أواخر العقد الماضي، فإنها في الوقت نفسه جنّبت الصين وقوع السياسة الخارجية في أخطاء قد تتحول إلى كوارث.

ولكن اليوم، ومع مركزية عملية صناعة القرار، وتراجع فرص المراجعة فيها، أصبح احتمال تبني سياسات عالية المخاطر أقوى واحتمال التراجع عنها أقل. وشكلت خسارة الصين التوازن والمرونة التكتيكية في سياستها الخارجية مشكلة كبيرة. وأبلغ دليل على ذلك ملف حقوق الإنسان. ففي سنوات ما بعد مذبحة ميدان السلام السماوي (تيانانمن) عام 1989 ضد المطالبين بالديمقراطية في الصين، أصبح القادة الصينيون مهتمين بنسبة بسيطة بالمعايير الغربية لحقوق الإنسان.

ورغم أن السؤال لا يزال قائما بشأن ما إذا كان القادة الصينيون يمتلكون من المرونة ما يكفي لتغيير مسارهم، خاصة في ظل تنامي النزعة الوطنية في الداخل، فإن الخطر الذي تواجهه الصين كبير ويفرض عليها التحلي بالحكمة لمحاولة تغيير المسار.