خطأ صغير صححته بأكبر..

روسيا تخسر أوكرانيا قبل سنوات بخطاب متناقض وتعامل منفر

"أرشيفية"

روسيا

ضيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرصة ذهبية من يديه، بعدم ضم أوكرانيا إليه عام 2014 عندما ضم القرم، إذ كان أنصاره يسيطرون بشكل كبير على مفاصل الدولة؛ الجيش والشرطة والرئاسة، حيث كان المواطنون في حالة فزع من ظاهرة النازية في أوكرانيا، حتى أن جميع الأقليات بمن فيهم اليهود، كانوا قلقين من تنامي ظاهرة القوميين المتطرفين، أو النازيين الجدد حسب التسمية الروسية، وكان ذلك كفيلًا بمنح روسيا جميع المبررات للقيام بعملية اجتياح واسعة النطاق لأراضي أوكرانيا، وسينظر إليها السكان في الشرق والجنوب على أنها المخلص، والحامي عبر تقدم الرئيس الأسبق ڤيكتور يانوكوڤيتش بطلب تدخل القوات الروسية لحماية الشرعية.

 وكانت الشرطة والجيش الأوكرانيتان في ذلك الوقت مؤيدين له في مجملهما، لقوبل التدخل الروسي بالورود حقًا، ولفرض سيطرته دون رصاصة واحدة على جميع مناطق الشرق والجنوب بكاملها كما حدث في دخوله شبه جزيرة القرم، وهو ما يفسر هذا الاستحواذ السهل عليها في تلك الأيام.

هذا يؤكد أن أجواء الحرب الروسية الأوكرانية 2022 ليست ما كانت عليه عام 2014، التي كانت في صالح موسكو تمامًا التي اكتفت وقتها بضم شبة جزيرة القرم، وتوقيع اتفاقية مينسك، في 5 سبتمبر 2014، التي بدت وكأنها في صالح موسكو، ولكنها جمدت الصراع إلى حين خلق تغيير ثقافي جوهري في الداخل الأوكراني.

عقب هذه الاتفاقية، زاد التدخل الغربي في أوكرانيا، وبدأت عملية خلق اغتراب ثقافي، وفصل تاريخي داخل كييف تجاه روسيا، وسط غياب تام لأي تأثير روسي، أو محاولة لمواجهة ثقافية مماثلة لهذه الموجة، واعتماد شبه حصري على القوة الخشنة عبر العقوبات الاقتصادية، ودعم المتمردين، والتصريحات العنيفة تجاه أوكرانيا وتاريخها وكينونتها التي حملت بعض التعالي، وهو ما أيقظ الشعور القومي العام لدى عامة الأوكرانيين.

كما يلاحظ أن حلفاء موسكو في أوكرانيا مجموعة من الأوليغارشية الفاسدة والمكروهة من جانب الشعب، ولم تحاول عقد تحالفات مع جهات موثوق بها تتمتع بسمعة طيبة ببساطة كما أراد الغرب، كما شاهد الأوكرانيون التجربة الروسية عمليًّا في المناطق التي سيطرت عليها من أوكرانيا، فلم يجدوا تغيرًا يذكر لأوضاع سكان شبه جزيرة القرم، أما سكان إقليم الدونباس، الذي سيطر حلفاء موسكو على نحو 40% من أراضيه، فكانت حياتهم بائسة، ولم تستغل موسكو الفرصة لخلق حياة أفضل تحفز الأوكرانيين الموالين لها بطبيعتهم على التمسك بالعلاقة معها.

أدت الحرب في الدونباس، والاعتقالات للمعارضين في القرم، ومشاهد القتل والدمار في المناطق المتنازع عليها، إلى نفور عام لدى الأوكرانيين الذين يعانون بؤسًا اقتصاديًّا بالفعل، لكنهم يتمتعون بشيء من الحرية والاستقرار فكان الخيار الأخير أفضل لهم، ومقدمًا على قضايا الهوية والروابط التاريخية مع موسكو.

خطاب متناقض

العقوبات الاقتصادية التي توسعت فيها موسكو تجاه أوكرانيا، أضرت بشكل رئيسي بسكان الشرق المرتبطين بها تاريخيًّا واقتصاديًّا، وبدلًا من تدعيم هذه العلاقة معهم لخلق حافز إضافي مرتبط بالمصلحة اليومية للمواطنين، عاقبتهم على تصرفات حكومة كييف، وبدا خطابها متناقضًا؛ فمن ناحية، تتحدث موسكو عن علاقة الأخوة السلاڤية الشرقية، والرابطة التاريخية بين الروس والأوكرانيين، وأنها تفرق بوضوح بين الشعب وما تسميها سلطة كييف، ولكنها عمليًّا تعاقب السكان المحليين.

وفي الوقت الذي نشطت فيه الدعاية الروسية، وفضائياتها الناطقة بعدة لغات مختلفة لمخاطبة شعوب العالم، ظلت ضعيفة وعاجزة عن مخاطبة الشعب الأقرب والأهم بجوارها في أوكرانيا.

تضييق واسع

كما شهدت روسيا، في السنوات العشر الأخيرة، حالة من التضييق الواسع على الحريات، وسط تراجع اقتصادي، وغياب لأي نموذج جاذب، مع مرور الوقت، وبسبب التراكمات السابقة، والدعاية الغربية النشطة والفعالة، أصبح لدى الأوكرانيين من الناطقين بالروسية في الشرق، نفور، وربما كراهية للنموذج الروسي، لا من روسيا أو شعبها، فلا وجود لنموذج سياسي، أو نجاح اقتصادي، أو وهج فكري وثقافي، أو تطور ما تكنولوجي واجتماعي في روسيا، والعقوبات الاقتصادية الروسية أضرت بهم، وكان من الطبيعي عند عقد المقارنة أن ترجح كفة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأن تجد الدعاية المناهضة لروسيا من القوميين المتطرفين صدى لها حتى وسط الناطقين بالروسية، التي روجت لضرورة انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو أولًا، ليقبل الأوروبيون ثانيًّا عضويتها في الاتحاد الأوروبي، بعد ضمان حمايتها من روسيا لبناء دولة مستقلة، لذا رأى كثير من السكان غير المستقطبين أن الانضمام إلى الناتو ربما يشكل عامل استقرار لبلادهم.

 أسباب الخسارة
  
لعل أبرز أسباب خسارة روسيا أنصارها في أوكرانيا، هو تخليها عنهم عندما سحقتهم السلطات الأوكرانية وجردتهم من أملاكهم ومناصبهم، وزجت بهم في السجون بتهمة الخيانة العظمى، ولم تقدم موسكو دعمًا لهم خلافًا لبيانات الشجب والإدانة، وأدى ذلك إلى حذر سكان الشرق والجنوب من أي اندفاع نحو تأييد روسيا؛ خشية الانتقام فيما بعد إذا توصلت إلى اتفاق وسحبت قواتها.

أدت العوامل السابقة وغيرها، إلى تولد شعور بالذاتية الوطنية الأوكرانية لدى سكان شرق أوكرانيا وجنوبها من الناطقين بالروسية، ورغبة في الخلاص من هذه الثنائية التي قسمت البلاد بين ولاء شرقي لموسكو وغربي للاتحاد الأوروبي وأمريكا، وشكل بدء التحرك العسكري الروسي، وصولًا إلى مدنهم، عامل تحفيز لحمل بعضهم السلاح، ورفض استسلامهم، بدلًا من استقبال الجيش الروسي بالورود، وما حفزهم على ذلك الخطاب الروسي المضطرب عن أسباب هذه الحملة العسكرية ودوافعها، وشعورهم بأن الحكومة الأوكرانية لم تقم بجريمة تستدعي هذه الحرب.