الرياضة التونسية تغرق في مستنقع العنف وتعصّب الجماهير

الرياضة واجهة للصراع السياسي بين المعارضة وقيس سعيد

الصراع السياسي في تونس ينتقل من الشارع إلى الملاعب. ورغم أن الجهات المحركة تتخفى وراء المجموعات الداعمة لأندية الكرة ولا ترفع شعارات سياسية مباشرة، إلا أن التصعيد المفاجئ لدى جمهور الكرة يظهر بلا شك أن ثمة يدا تدفع نحو التصعيد ومنع استقرار الوضع في وقت يشتدّ فيه الخلاف بين الرئيس قيس سعيد ومعارضيه بسبب خطواته المتسارعة نحو الاستفتاء وإقرار دستور جديد.

عنف رياضي بتوقيت سياسي

تونس

 عاد الشغب الجماهيري والسلوك العنيف إلى الملاعب التونسية رغم إقرار العودة الجزئية للجماهير إلى المدرّجات ليفسح المجال أمام الاتهامات والتعصّب الرياضي، بعد سنة من إجراء المباريات بمدارج خالية فرضتها إجراءات احتواء وباء كورونا.

ويتواصل نزيف العنف في الملاعب التونسية رغم الدعوات الملحّة من جلّ الأطراف لممارسة النشاط في إطاره المعهود، بعيدا عن التوظيف الجغرافي والسياسي الذيّ أجّج النزعة الانتمائية لدى الكثير وعمّق الهوّة بين الجمعيات الرياضية.

وشدد الرئيس التونسي قيس سعيد على النأي بالرياضة عن كل التجاذبات، مؤكّدا على “ضرورة ألّا تتخفى وراء الجمعيات الرياضية جماعات ضغط ترمي إلى تحقيق مصالح شخصية أو إلى تأجيج الأوضاع وضرب السلم الأهلية لغايات يعلمها الجميع”.

وقال خلال استقباله لكمال دقيش وزير الشباب والرياضة بقصر قرطاج إن “التربية البدنية تحولت إلى صراع بين مجموعة من اللوبيات وتحولت الرياضة إلى منطقة صراع وتم تأجيج الأوضاع من قبل جهات معلومة، هي رياضة وليست سلعة، كلما تنظم مقابلة تتحول إلى حلبة صراع، ما حدث مؤخرا عار على الرياضة التونسية، في السنوات العشر الماضية سالت الدماء في الملاعب بسبب الصراعات الجهوية، لا بد من اتخاذ القرارات اللازمة، ومن يعتقدون أنهم يتخفّون وراء جمعيات للهروب من العقاب سيتم تطبيق القانون عليهم، إذا وصل الأمر إلى إزهاق الأرواح في الملاعب فلا ضرورة لها”.

وأضاف قيس سعيّد “يريدون أرباحا مالية وسياسية ويشجعون على الاستثمار في الدم وما حدث مؤخرا غير مقبول. إذا تحولت المقابلات إلى تصفية حسابات بين مجموعة من اللوبيات فإن ذلك لم يعد رياضة، ما حدث ليس بريئا وليس طبيعيا”.

واندلعت مساء الحادي عشر من مايو أعمال عنف وشغب في نهائي كرة اليد بين أحباء النادي الأفريقي والترجي التونسي، حيث حدثت تشابكات بين المشجعين بالمقذوفات مما أدى إلى إصابات واجتياح الجمهور لميدان القاعة، وتوقفت على إثر ذلك المباراة.

وفقد التنافس الرياضي جوهره الخاص بعد أن أضحى “مرتعا” لكل الفئات تسعى من خلاله لتحقيق مصالحها الضيّقة جهويا ووطنيا، فضلا عن كونه جسرا سهل العبور نحو تلميع الشعبية السياسية والحزبية.

وقررت السلطات التونسية في نوفمبر 2021 السماح بعودة جزئية للجماهير بنسبة 15 في المئة من سعة الملاعب والقاعات بعد تحسن الحالة الوبائية، ثم سمحت منتصف فبراير الماضي بعودتهم بنسبة 50 في المئة.

ودعا رياضيون سابقون إلى ضرورة احترام وتطبيق القانون على الجميع دون تمييز، فضلا عن اعتماد الكفاءة في تسيير النوادي، معتبرين أن العنف أصبح حاضرا في كل حلقات المجال الرياضي.

وأضاف لـ”العرب” أن “الأدوار مرتبطة ببعضها البعض، وإذا مارس رئيس جمعية رياضية أو مسؤول الشغب، فإن الجماهير واللاعبين سيتبعونه في ذلك، وهناك الكثير من الدخلاء على الميدان الرياضي وتسيير النوادي”.وأفاد اللاعب الدولي السابق لكرة القدم جمال الدين ليمام أن “ما يحدث في الملاعب التونسية بعد ما يسمى بالثورة، هو شكل من الفوضى وعدم الاحترام للرياضة عموما”، لافتا إلى أنه “سابقا كان يوجد مسؤولون ولاعبون تتوفّر فيهم الكفاءة والتجربة، أما الآن فممارسات العنف موجودة في المدارج وخارج الملعب ويتسبب فيها أحيانا المسؤولون”.

ودعا ليمام إلى “ضرورة تطبيق القانون على الجميع دون تمييز أو محاباة”، موضحا “اليوم هناك نقص كبير في تأطير وتربية اللاعبين والجماهير الأمر الذي خلق صورة سيئة من العنف تسّوق لكل العالم، والرياضة أصبحت مسيّسة وتتبعها الفوضى”.

وقال منير بن سليمان الرئيس السابق للجامعة التونسية للكرة الطائرة إن “مستوى تأطير الشباب تراجع، ولاحظنا وجود العديد من المسؤولين في النوادي والجامعات والاتحادات غير قادرين على ردع الجماهير وحسن التسيير”.

وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن “هناك العديد من حالات العنف وردود الأفعال من الهياكل المسؤولة، ومظاهر العنف الموجودة في المجتمع انعكست سلبا على الملاعب، فضلا عن التداخل بين الجانبين الرياضي والسياسي الذيّ غذّى ظاهرة العنف في الملاعب التونسية”.

وأردف بن سليمان “سلطة الإشراف تضطلع بدور كبير، ولا بدّ من التأطير السليم للشباب الذي يعتبر أمرا صعب جدا، والتدخلات لا بدّ أن تكون أولا من العائلة والمؤسسات التربوية ثم الشارع والملاعب، والجميع مطالبون بالقيام بدورهم كأحسن ما يكون”.

وأشار إلى أن “الرياضي مثال يحتذى به وهو مرآة عاكسة للأخلاق بالنسبة إلى الناشئة، لكن إذا أهمل تلك الجوانب فالكل سيخرج عن السيطرة”.

ويؤكّد خبراء أمنيون على وجود ارتباط وثيق بين العنف الممارس في الملاعب الرياضية وتجاذبات المشهد السياسي بعد قرارات الرئيس قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو الماضي.

وقال المتحدث الأسبق باسم وزارة الداخلية في تونس خليفة الشيباني إن “ما يحدث الآن من أعمال عنف في الملاعب ليس بمعزل عن الاحتقان السياسي وفي علاقة بموجة الحرائق المتزامنة مع أيام عيد الفطر”.

وأضاف لـ”العرب” أن “العنف كان مقتصرا على ملاعب كرة القدم، لكن اليوم أصبح في مختلف الرياضات (كرة اليد، الكرة الطائرة، كرة السلة) وهناك بعض الجمعيات تحذّر جمهورها من بعض المندسين في المدرّجات والعبث بالملاعب”.

ولاحظ أن “العنف في المشهد الرياضي لا يختلف عن عنف الطبقة السياسية والشارع، وقبل تحميل المسؤولية للجهات الأمنية لا بدّ من الوقوف على تفشي العنف في المجتمع، وحرب بعض الأطراف على توجهات الرئيس سعيّد، حيث أصبحت تستغل كل الفرص لإثارة العنف والتجاذبات السياسية”.

وتابع الشيباني “هناك مسؤولون رياضيون سيّسوا كرة القدم، ومجلّة العقوبات متقادمة وتكرّس الإفلات من العقاب والشعبوية، ووسائل التواصل الاجتماعي بصفحاتها المختلفة أججت الوضع أمام ضعف المسؤولين”.

وأردف “نريد رياضة للرياضيين وبهدفها الأصلي، ونحيّن قوانينها، فضلا عن إبعادها عن السياسة، وتكريس مبدأ المساواة بين جميع الأندية”.

ولم يقتصر انتشار ظاهرة العنف على ملاعب كرة القدم، بل شمل أيضا مختلف الرياضات الجماعية في وقت يشرف فيه الموسم الرياضي على النهاية ويحتدم فيه التنافس من أجل حصد الألقاب وتفادي النزول.

وقال المحامي والناقد الرياضي فتحي المولدي في تصريح لـ”العرب” إن “ممارسة العنف في الملاعب ليست بالجديدة وتتفاقم مع اقتراب الحسم في كل البطولات، والسلطات تعرف جيدا المشكلة لكنها لا تملك الشجاعة الكافية لمواجهتها”.

وأكّد أن “المجموعات الموجودة في النوادي تمارس العنف وهناك من يساعدها في ذلك، على غرار مباراة دربي العاصمة الأخيرة التي جمعت النادي الأفريقي بالترجي الرياضي وشهدت إشعال الألعاب النارية واحتقانا كبيرا من الطرفين”.

وأضاف المولدي “الوضع العام متوتر، والدولة التونسية أصبحت مستباحة لأن السلطة لم تفرض كلمتها ولم تطبّق القانون وهي تتفرّج بعين مفتوحة وأخرى مغمضة، إضافة إلى غموض الوضع السياسي والاجتماعي تبعا لغلاء الأسعار وتواتر الحرائق وغيرهما”.

وتابع “قبل ثورة 2011، كان ما يقع في الملاعب نتيجة للكبت السياسي، لكن الآن هناك عدة فضاءات للتعبير والاحتجاج في الشارع وصفحات التواصل الاجتماعي”، لافتا إلى أن الكراهية ظهرت بين التونسيين واهتز منسوب الثقة في المسؤولين والجامعات الرياضية”.

واقترح فتحي المولدي حل “الويكلو” (دون جمهور) لتنظيم المباريات، أو “حضور 100 محب من الجمهور المحلي وبالهوية الرسمية (بطاقة التعريف الوطنية) لأن الرياضة أصبحت آخر اهتمامات السياسيين”.

وفي أبريل الماضي قرر حكم مباراة النادي الصفاقسي والنجم الساحلي في إطار نصف نهائي كأس تونس للكرة الطائرة إيقاف مباراة دامت أكثر من 3 ساعات في الشوط الخامس بنتيجة 9 مقابل 6 للنادي الصفاقسي وذلك بعد رفض لاعبي النجم الساحلي استكمال المباراة.

وتوقفت المباراة لأكثر من مرة بسب احتجاجات واعتداءات بين اللاعبين وكذلك رمي مقذوفات مما استدعى استعمال الغاز لتفريق الجماهير.

وفي الشهر ذاته، شهدت مباراة الترجي الرياضي واتحاد تطاوين لحساب الدوري التونسي لكرة القدم بملعب حمادي العقربي برادس اشتباكات عنيفة مع قوات الأمن وأسفرت عن إصابة 6 أمنيين.

ويعتبر غرق مشجع النادي الأفريقي عمر العبيدي في الحادي والثلاثين من أبريل 2018 في وادي مليان (جنوبي العاصمة) “بعد إجباره من الشّرطة على القفز فيه” إثر مباراة كرة قدم، الحدث الرياضي الأعنف والذي بقي في ذاكرة الشارع الرياضي التونسي.

وأطلق ناشطون بمواقع التواصل الاجتماعي حملة “تعلّم عوم” في أبريل 2018 إثر غرق العبيدي وسط دعوات إلى اعتماد الحادي والثلاثين مارس من كل عام يومًا وطنيًا لمناهضة “الإفلات من العقاب”.

وتكررت مشاهد العنف بملعب الطيب المهيري بصفاقس (جنوب) بسبب أغنية “عمر حي إن شاء الله في الجنة”.

وتم في الثامن عشر أبريل الماضي أثناء لقاء جمع النادي الصفاقسي بالنادي الرياضي لحمام الأنف “تسجيل اعتداء الأمن داخل الملعب وخارجه على مشجعين أكثرهم من القصر وتوقيف حوالي 100 مناصر أطلق سراحهم لاحقًا بتهمة التسبب بالفوضى”، بحسب الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.

وفي وقت سابق قال المدير العام للأمن العمومي في وزارة الداخلية مراد حسين “يجب إيجاد حل لظاهرة العنف قبل فوات الأوان”.

وأضاف في تصريح صحافي أن “وزارة الداخلية لم ترغب يومًا في منع الجماهير من الدخول إلى الملاعب إلا أن ارتفاع منسوب العنف أصبح مزعجًا”، موضحا أن “العنف قد يخرج عن السيطرة إذا لم تتدخل مختلف الجهات لإيجاد حل جذري وسريع”.