دراسات الشرق الأوسط..
أطفال اليمن وفلسطين أمام مكتب الأمين العام غوتيريش
هل تذكرون ليلى زروقي؟ جزائرية شجاعة ونموذج فذ عن أبناء وطنها الشجعان، شغلت منصب ممثلة الأمين العام لموضوع الأطفال والصراعات المسلحة، بين عامي 2012 و2016. قدّمت تقريرها السنوي حول الانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها الأطفال حول العالم عن سنة 2015، بعد إطلاق التحالف العربي عملية «عاصفة الحزم» في مارس من تلك السنة.
كان من ضمن صلاحياتها وضع الأسماء على قائمة ملحقة بالتقرير أطلق عليها «القائمة السوداء»، وأطلقنا عليها نحن، المتابعين لشؤون المنظمة الدولية، اسم «قائمة العار»، التي تضم الدول والجماعات والكيانات والميليشيات، التي ترتكب ما يصنف بـ»انتهاكات فظيعة» ضد الأطفال. حاولت قوى عديدة آنذاك سحب التقرير قبل نشره، لإجراء تعديل أساسي عليه، وهو سحب اسم دول التحالف بقيادة السعودية من القائمة، إلا أن زروقي رفضت الضغوط بشدة كما رفضت سحب اسم إسرائيل من تقرير 2014، الذي غطى عدوان إسرائيل على غزة عام 2014.
قامت الدنيا ولم تقعد، طلب السفير السعودي عبد الله المعلمي، لقاء مع الأمين العام بان كي مون، وهدده بشكل مباشر إذا لم يسحب اسم التحالف بقيادة السعودية من قائمة العار، فإن السعودية ستعاقب الأمم المتحدة، وتوقف مساعداتها الإنسانية، وتمويل مركز الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، وتبرعاتها لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ومساهماتها في عدد من البرامج الإنسانية الأخرى.
انحنى بان كي مون أمام العاصفة ورضخ للتهديد، وسحب اسم التحالف من القائمة، لكنه امتلك الشجاعة ليقف أمام الصحافيين ويعلن: «من غير المقبول للدول الأعضاء (في الأمم المتحدة) ممارسة ضغوط مفرطة على المنظمة الدولية، وإن قرار إزالة التحالف الذي تقوده السعودية من تقرير أطفال اليمن، كان أحد أصعب القرارات التي كان عليّ اتخاذها». وأكد بان كي مون أن هذه الضغوط شملت تهديدات «بإلغاء تمويل عدة برامج للأمم المتحدة».
غوتيريش يتعلم الدرس
ذهب بان في نهاية 2016 وجاء غوتيريش، متزامنا مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، المعروف بتهديداته للمؤسسات الدولية، وقناعته بالابتعاد عن العمل الجماعي والدبلوماسية متعددة الأطراف، ورفعه شعار أمريكا أولا. وقد ظهرت علامات انصياع الأمين العام الجديد للمواقف الأمريكية منذ البداية، أيام السفيرة نيكي هيلي، صاحبة الكعب العالي المخصص لركل منتقدي إسرائيل، عندما تراجع عن اختيار الفلسطيني سلام فياض مبعوثا خاصا لليبيا، ورفض نشر تقرير الإسكوا عن نظام الفصل العنصري في إسرائيل، وتمسك بنيكولاي ملادينوف منسقا لعملية السلام، رغم انحيازه للكيان الصهيوني. لكنني سأخصص حديثي فقط عن التقرير السنوي حول الأطفال والصراعات المسلحة، الذي يغطي سنة 2019 ونشر يوم الاثنين 15 يونيو الحالي. لكن قبل التقرير أود أن أمر على التغييرات التي أجراها غوتيريش على مكتب وعمل الممثل الخاص للأطفال والصراعات المسلحة.
يبدو أن غوتيريش بات يخشى أن أي نقد يوجه لأمريكا أو إسرائيل قد يدفع بالرئيس الأمريكي الانسحاب من المنظمة الدولية
– قام غوتيريش أولا بنقل السيدة ليلى زروقي من منصبها لتصبح رئيسة بعثة الأمم المتحدة في جمهورية الكونغو الديمقراطية (مونوسكو) وهي البعثة الأصعب والأضخم في كل بعثات حفظ السلام.
– نقلت مسوؤلية مَن يوضع على القائمة السوداء من الممثل الخاص، وهو الشخص الذي يتعامل مع الحقائق والمعلومات، إلى الأمين العام نفسه، الذي يتعامل مع رؤساء الدول والحكومات والدبلوماسيين.
– عين الأمين العام ممثلة خاصة جديدة لتخلف السيدة زروقي، وهي الأرجنتينية فرجينيا غامبا. وكانت الولايات المتحدة قد اختارت غامبا لترأس «آلية التفتيش المشتركة المعروفة باسم «JIM» لتحدد من المسؤول عن استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا. وطبعا كان الهدف هو تحميل النظام فقط تلك المسؤولية. وقد نشرت تقريرها الأول في أغسطس 2016، وقد حمّلت النظام المسؤولية عن هجومين بغاز الكلورين، استخدمته الطائرات المقاتلة ضد المدنيين، كما حمّل التقرير»داعش» مسؤولية استخدام غاز الخردل في هجوم ضد المدنيين. وأعلنت أن عملها لم ينته وأنها ستتابع التحقيق، إلا أن روسيا استخدمت الفيتو، وأنهت مهمة غامبا وفريق التفتيش. فعاد الأمين العام (بإشارة أمريكية) بإعادة تدويرها وتعيينها في 12 إبريل 2017 ممثلة للأمين العام في موضوع حساس جدا يتعلق بالأطفال والصراعات المسلحة.
– أعيدت تسمية القائمة السوداء لتصبح الملحق رقم «1» تحت عنوان مخفف: الأطراف الموضوعة على القائمة، التي لم تضع إجراءات لتحسين حماية الأطفال خلال الفترة التي يغطيها التقرير. والفرق واضح بين التسميتين.
– الابتعاد عن استفزاز الدول ذات التأثير القوي داخل المنظمة الدولية، ومحاولة عدم مواجهتها، خاصة السعودية وإسرائيل والولايات المتحدة وروسيا، وكلها من منتهكي حقوق الأطفال.
أطفال اليمن في تقرير 2019
يؤكد التقرير أن الفريق تأكد من أن 4042 انتهاكا فظيعا تعرض لها 2195 طفلا (منهم 451 طفلة). في موضوع تجنيد الأطفال، تشير الأرقام إلى أن الحوثيين هم أكبر المنتهكين (482)، يليهم الجيش اليمني التابع للحكومة الشرعية (136)، ثم قوات الحزام الأمني (41) في الجنوب، وقوات النخبة الشبوانية (16) وكلاهما تابع للإمارات. أما عن القتلى من الأطفال فقد بلغ عدد القتلى من الأطفال 395 طفلا وعدد الجرحى 1052. الحوثيون مسؤولون عن 313 ضحية، والتحالف عن 222، والقوات اليمنية الحليفة 96، واللجان الشعبية 40، وهناك 482 حالة لم يتمكن الفريق من التحقق من المسؤول عن قتلهم، أو إصابتهم. كما أن هناك 276 حالة وقعت أثناء تبادل إطلاق النار ومن الصعب تحديد المسؤولية.
يتضمن التقرير كذلك أصناف الانتهاكات الأخرى مثل، الاعتقال والخطف والتعذيب والاستغلال الجنسي. كما يذكر التقرير أن 20 مدرسة تعرضت لـ20 هجوما، والمستشفيات لـ15 هجوما، يتحمل الحوثيون المسؤولية عن 15 هجوما والحكومة اليمنية عن 6 والتحالف عن 4 وقوات الحزام الأمني مسؤولة عن هجومين والنخبة الشبوانية عن هجوم واحد.
نأتي الآن إلى القائمة. لقد وضع اسم أنصار الله (الحوثيون) أولا، وعناصر «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» ثانيا، والميليشيات المؤيدة للحكومة، بمن فيهم السلفيون واللجان الشعبية ثالثا، ورابعا قوات الحزام الأمني. لقد تم سحب اسم التحالف من الموقع الثاني ووضع مكانه «القاعدة»، التي تذكر في عدد قليل من المواقع. كما غاب اسم النخبة الشبوانية، علما أنها ذكرت مرارا، ووضع السلفيون المدعومون من السعودية. فأين المنطق في هذا الترتيب؟ وعندما ضغطنا على السيدة غامبا لتقدم تفسيرا مقنعا، أعادت ما قالته السنة الماضية: «إنها مسؤولية الأمين العام». مساكين أطفال اليمن من يتحمل مسؤولية دمائهم؟
أطفال فلسطين
أغرب ما في الجزء المتعلق بأطفال فلسطين، أنه أدرج مع إسرائيل في العنوان نفسه الذي يحمل اسم: إسرائيل ودولة فلسطين. فخلط الموضوعين يحمل نية خبيثة، مثل حكاية الجمل بدينارين والقط بألفين والبيع على الاثنين. لقد وقعت 3908 انتهاكات جسيمة للطرفين. الآن نلاحظ أن عدد أطفال فلسطين 1565 الذين تعرضوا للموت، أو الإصابات، بينما تعرض 8 أطفال إسرائيليين للإصابات، عدد الجرحى من الأطفال الفلسطينيين 1539، وعدد الإصابات عند الأطفال الإسرائيليين 8، من بينهم 3 أصيبوا جراء قصف من غزة. كما أصيب 532 طفلا في غزة أثناء مسيرات العودة في قطاع غزة. وقتل 32 طفلا فلسطينيا، بينما قتلت طفلة إسرائيلية بمتفجرة أرضية في الضفة الغربية المحتلة لم يحدد الفاعل. واعتقلت السلطات الإسرائيلية 529 طفلا، على أيدي قوات الأمن الإسرائيلية بتهم أمنية، ومن بينهم 347 من القدس الشرقية. وقد تعرض 166 طفلا من بين المعتقلين إلى نوع من المعاملة القاسية، بما في ذلك التعذيب.
تعرضت 15 مدرسة للانتهاكات الجسيمة و193 مستشفى أو مرفقا صحيا. قامت القوات الإسرائيلىة بـ201 هجمة و7 قام بها المستوطنون. تعرضت منشآت ومدارس غزة إلى 168 انتهاكا، وفي الضفة الغربية بما فيها القدس 40. يفصل التقرير بعد ذلك الانتهاكات الإسرائيلية الأخرى في مجالات مختلفة، ومع هذا لا يدرج اسم إسرائيل في قائمة العار.
أما عن الولايات المتحدة وانتهاكاتها الجسيمة ضد الأطفال في أفغانستان، فلا ذكر لها إلا بطريقة غير مباشرة، كأن يذكر التقرير: «القوات الحكومية والقوات التي تساندها». والحديث نفسه يتكرر عن الانتهاكات في سوريا، التي شهدت 2638 انتهاكا، حيث يتم تغييب الاتحاد الروسي، إلا من خلال إشارات عابرة كأن يقول»وقع 262 هجوما على المدارس والمستشفيات مسؤولة عنها القوات الحكومية والقوات المناصرة للحكومة (بما في ذلك القوات الجوية الحكومية والقوات الجوية المناصرة للحكومة). كيف تفسر هذا التغييب المتعمد لإسرائيل؟ سألني أحد الصحافيين، قلت يبدو أن غوتيريش قد شاهد انسحاب ترامب من اليونسكو، واتفاقية المناخ ومجلس حقوق الإنسان والاتفاقية حول برنامج إيران النووي، وأوقف مساعدات إنسانية للأونروا، وأخيرا ودع منظمة الصحة العالمية. الولايات المتحدة لحد هذه اللحظة لم تدفع حصتها في الميزانية العامة، ويبدو أن غوتيريش بات يخشى أن أي نقد يوجه لأمريكا أو إسرائيل قد يدفع بالرئيس الأمريكي الانسحاب من المنظمة الدولية مرة وإلى الأبد، وبالتالي يغلقون الدكان الدبلوماسي.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي