توقف قطار العفو في غير محطته يضاعف الضغوط على كاهل القاهرة

رفع منسوب الحريات العامة قسريا في مصر

تضاعف عمليات العفو الرئاسي عن سجناء الرأي وحقوق الإنسان التحديات أمام النظام المصري الذي أبدى تجاوبا كبيرا مع مطالب الإفراج عن المعتقلين، خاصة في حال خفف من وتيرة الإفراجات أو كانت مراسيم العفو صادرة بحق أشخاص على حساب آخرين مسجونين في القضايا نفسها، أو حتى الإفراج عن متهمين يراهم المصريون مدانين عبر الصور والفيديوهات التي توثق مشاركتهم في حوادث سابقة.

لا مجال للتراجع عن الإفراجات

القاهرة

سواء أرادت الحكومة المصرية القيام بإصلاحات سياسية حقيقية أم رفضت، فإن منسوب الحريات في الفضاء العام سوف يرتفع في الفترة المقبلة مع تزايد أعداد المفرج عنهم من المعتقلين في قضايا رأي وحقوق الإنسان بموجب فرز تقوم به لجنة العفو لعديد من الأسماء التي ترفعها لرئيس الجمهورية ليصدر مراسيم عفو عليها.

وأصدر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خلال الأيام الماضية قرارات عفو حوت مجموعة من الصحافيين والكتاب والباحثين والمهتمين بأنشطة حقوق الإنسان، وهو ما لقي استحسانا من قبل مراقبين ثمنوا الخطوة واعتبروها بادرة طيبة لحسن نوايا الحكومة ودفعة معنوية جيدة لنجاح الحوار الوطني الشامل الذي جرى تدشينه لأجل استيعاب قوى معارضة في المشهد العام.

 لكن ظهرت تخوفات من قبل البعض خشية أن تعيد أجهزة الأمن اعتقال هؤلاء مرة أخرى أو تقوم بتوقيف آخرين والزج بهم في السجون لأسباب مختلفة وتمنح المنظمات الحقوقية الدولية التي لم تتعامل مع دعوة الحوار بجدية فرصة للتشكيك فيها، حيث تراها خطوة تكتيكية تهدف منها الحكومة إلى استيعاب الضغوط الخارجية في ملف الحريات والتنفيس عن شريحة من المواطنين تعاني من أزمات اقتصادية هيكلية.

وتبدو هذه التخوفات في غير محلها، لأن عودة الحكومة إلى طريقة التوقيف والاعتقال والسجن بأي من الحجج التي استخدمتها خلال الفترة الماضية سيؤدي إلى انكشاف سياسي يضر بالنظام المصري برمته، ويجهض كل الرهانات، سواء كانت تكتيكية أو إستراتيجية، وينزع عنها أي دسم أراد العقلاء في مصر تجسيده في الفضاء العام.

وعاد البعض ممن أفرج عنهم ضمن قرارات العفو إلى ممارسة هوايتهم في توجيه انتقادات حادة للنظام المصري ولم تتم إعادة اعتقال أي منهم، حتى الآن على الأقل، بل ظهرت جرأة متزايدة على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة وارتفع معدل الرفض لكثير من السياسات التي تطبقها الحكومة في مجالات سياسية واقتصادية.

وتعد قضية الحريات في مصر وغيرها من الدول أشبه بكرة الثلج التي تكبر يوما بعد يوم مع زيادة المساحة المتاحة أمامها، وهو ما بدأت تظهر تجلياته تدريجيا، ربما لم تصل بعد إلى الدرجة المؤثرة في وسائل الإعلام التقليدية، لكن هناك إرهاصات تشير إلى إمكانية اتساعها قريبا في ظل فقدان القدرة على تقليصها، وكانت الصورة أكثر وضوحا على مواقع التواصل التي تشهد زخما يعبر عن حراك عام يمكن أن تتشكل معالمه بطريقة أكبر الفترة المقبلة.

وفرضت هذه الحالة تحفظات عديدة على تيار في الحكومة كان رافضا لمسألة الانفتاح في الفضاء العام وإطلاق الحوار الوطني والربط بينه وبين الإفراج عن معتقلي الرأي والنشطاء، وهي قضية باتت تحتل أولوية في أجندة قوى معارضة تشارك في الحوار وتعتبرها الدليل المهم على رغبة الدولة في القيام بإصلاحات في مجالات عديدة.

وعندما أطلق الحوار مؤخرا بدأت إشكاليات الإفراجات تظهر، ما جعل نصيب المفرج عنهم من السياسيين ومعتقلي الرأي محدودا مقارنة بجنائيين أو غارمين وغارمات جرى الزج بهم ضمن لجنة العفو أملا في طمس معالم الشق السياسي وتحويله إلى جزء ضئيل بين شخصيات تنتمي إلى أطياف مختلفة في المجتمع المصري.

ولم تفلح هذه الحيلة، وثبت مع الأيام أن الشق السياسي وعلى رأسه ملف المعتقلين هو الفيصل والحاسم في جدية الحكومة في الحوار الوطني والانفتاح العام، وزادت أهمية هذا الشق مع حاجة القاهرة إلى مساعدات اقتصادية من جهات دولية ترى أن ملف الحريات مقياس أو بوصلة مهمة في تقديم الدعم وجذب الاستثمارات إلى مصر وتعزيز الثقة في حكومتها، ما يعني أنها مضطرة إلى المضي في هذا الطريق.

ووقعت الحكومة في تناقضات بسبب محاولة تخفيف الوطأة الناجمة عن عدم التوسع في الإفراجات السياسية وخلط المفاهيم، حيث أفرجت عن معتقلين وتركت آخرين واجهوا الاتهامات نفسها وفي قضية واحدة، الأمر الذي أدى إلى حرج بالغ لها يمكن أن يرخي بظلال سلبية في نواياها ويدعم رؤية تيار أعلن شكوكه مبكرا.

وجاء الإفراج عن الفنان طارق النهري قبل أيام ليجدد المخاوف السابقة، حيث عوقب بالحبس لمدة عشرين عاما نتيجة اتهامه في ارتكاب عنف في القضية المتعلقة بحرق المجمع العلمي والاعتداء على مقر مجلس الوزراء وضبطت له بعض الصور التي ظهر فيها وهو يحمل سلاحا ناريا في وسط القاهرة، بينما لم يفرج معه عمّن أدينوا في القضية ذاتها، مثل الناشط أحمد دومة.

وأثار الإفراج عن النهري وعدم الإفراج عن دومة علامات استفهام كبيرة زادت مع عدم قيام لجنة العفو بتفسير سبب هذه المفارقة، وعدم اهتمام أي جهة حكومية بتوضيح الموقف وما إذا كان هناك التباس أم لا، ما منح قوى معارضة فرصة، أبرزها جماعة الإخوان، لإثارة غبار حول الدور الذي تلعبه لجنة العفو الرئاسية في ملف الإفراجات.

وتواجه الحكومة اختبارا جادا بين مواصلة طريق الإفراجات وتحقيق تقدم في الحوار الوطني وما ينطوي عليه كلاهما من معان كبيرة، وبين النكوص والعودة إلى الطريقة السابقة، وما يفيد بأن الطريق الأول كان مفروضا أو جاء قسريا وأي استدارة نحو الطريق الثاني ستحمل معها ضررا يسيء إلى النظام المصري ويقلل من مصداقيته.

وإذا كانت الحكومة تأقلمت في السابق مع الاتهامات التي كانت توجه إليها في الملف الحقوقي وتمتلك الكثير من الحجج في الرد عليها في فترة بالغة الحساسية، فإن الغطاء الذي توافر لها من قبل جرى نزعه بمجرد أن تم القبول بالحوار الوطني وزيادة معدل المفرج عنهم بعد اتهامات في قضايا تتعلق بالحريات.

ولعل قطار العفو الذي انطلق الأيام الماضية لن يتوقف مهما تدنت سرعته، وإذا لم تتزايد الوتيرة فإن القطار لن يعود إلى الخلف مرة أخرى، على مستوى إعادة اعتقال مفرج عنهم أو التوسع في ضم معتقلين جدد لأسباب متباينة، فالمساس بهذه المعادلة سوف يمثل ضغطا مضاعفا على النظام المصري في وقت يبحث فيه عن حلول لمشكلات اقتصادية واجتماعية مزمنة.

ولن تتحمل هذه المشكلات توسيعها بضم أخرى سياسية، وتحد العيون المفتوحة على ما يجري في مصر من قدرة الحكومة على ممارسة أي دور يقود إلى انتكاسة أو إصابة قطار الحريات بعطب متعمد، فإذا لم يتم إصلاحه تماما وينطلق بالسرعة المطلوبة سيترك واقفا في المحطة الحالية، بلا زيادة في عدد الخارجين والداخلين.