ماكرون ينفي أن يكون الغاز هو «المحرك الرئيسي» لزيارته

باريس والجزائر عازمتان على الوصول إلى «علاقات استراتيجية شاملة»

باريس

 

(تحليل سياسي)
إذا كان الجزائريون، رسميين ومجتمعاً مدنياً، يأملون من زيارة الرئيس الفرنسي أن يحصلوا أخيراً من فرنسا، الدولة المستعمرة لبلادهم طيلة 132 عاماً، على اعتذار عن الجرائم التي ارتكبها الاستعمار بحقهم، أو التعبير عن الندم، أو على الأقل اعتراف يذهب في هذا الاتجاه، فإن أملهم خاب مرة أخرى، لأن إيمانويل ماكرون لن يخطو هذه الخطوة، نظراً لتبعاتها السياسية في الداخل الفرنسي، ولأن الاستجابة للرغبة الجزائرية ستكون باهظة الثمن سياسياً. ثم هناك اليمين المتطرف، الذي ما فتئ ينتقد ماكرون في كل مناسبة من هذا النوع، ويرى أنه يحطّ من قدر وقيمة فرنسا.
لذا، فإن ماكرون في زيارة العمل والصداقة للجزائر، التي تنتهي اليوم في مدينة وهران، وجد المَخرج المناسب، وقال أمس خلال مؤتمر صحافي بالعاصمة الجزائرية إن ما يريده هو «الحقيقة»، ولذا فقد اتفق مع الرئيس الجزائري على إنشاء لجنة مشتركة من المؤرخين الفرنسيين والجزائريين، الذين ستفتح لهم صفحات الأرشيف الفرنسي والجزائري لجلاء هذه الحقيقة. وستكون مهمة اللجنة وفق ماكرون «النظر في كامل تلك الفترة التاريخية... منذ بداية الاستعمار إلى حرب التحرير، من دون محظورات».
ولمزيد من التوضيح، ولتفكيك مسبق لأي تأويل، أضاف ماكرون أن ما تقرر «ليس تعبيراً عن ندم أبداً». وبذلك سعى ماكرون لإخراج هذا الملف من ساحة الجدل، الذي يسمم العلاقات الثنائية منذ عقود، وذلك بعد أن تبين له أن اللجنة الفرنسية التي شكّلها في 2020 وعهد بها إلى المؤرخ بنجامين ستورا، الخبير بشؤون الاستعمار الفرنسي والمقبول جزائرياً، لم تفِ بالغرض، رغم المقترحات الكثيرة التي عرضها، والتي تم تنفيذ الكثير منها.
ثمة موضوع آخر كان يأمل الجزائريون أن يحمل ماكرون جديداً حوله، إلا أن أملهم خاب مجدداً. فليس سراً أن الجزائريين يولون ملف التأشيرات أهمية خاصة. والحال أن ماكرون أمر العام الماضي بتخفيض عددها إلى النصف، رداً على ما رأته باريس مماطلة جزائرية في الموافقة على استرداد مواطنيها الموجودين على التراب الفرنسي بطريقة غير شرعية. وفي مؤتمره الصحافي، لم يعلن ماكرون عن تغير جذري في سياسة التأشيرات المتّبعة التي ربط بينها وبين محاربة الهجرات غير الشرعية. ووفق العرض الفرنسي، فإن ماكرون وتبون قررا «العمل معاً وفي مناخ من الثقة الجماعية». وقال الرئيس الفرنسي: «سنكون صارمين للغاية لكي نكافح معاً الهجرة غير الشرعية والشبكات الإجرامية، وسنكون أكثر فاعلية بكثير في استباق الهجرة غير الشرعية، وحتى نتمكن من مرافقة المهاجرين غير الشرعيين بشكل أكثر فاعلية». وبكلام آخر، فإن ماكرون حصل على وعد من نظيره الجزائري بالتعاون في استرداد مواطنيه، وفي المقابل وعد من جهته بـ«اعتماد مقاربة أكثر مرونة بكثير للهجرة الانتقائية، أي أُسر مزدوجي الجنسية، وكذلك الفنانين والرياضيين، ورجال الأعمال والسياسيين الذين يغذّون العلاقات الثنائية».
وكثيرة هي الملفات التي كانت موضع بحث الجانبين. لكن اللافت أن كليهما أبان عن رغبة مشتركة جامحة في قلب صفحة الماضي والنظر إلى المستقبل. وبرز ذلك أولاً من خلال الاستقبال الحار لماكرون، الذي انتظره الرئيس تبون عند سلم الطائرة وعانقه طويلاً. ثم برز ذلك في كلمتيهما إلى الصحافة مساء اليوم الأول من الزيارة في قصر المرادية الرئاسي، حيث أكد تبون أنه يريد «علاقة استراتيجية شاملة مع فرنسا» تكون مبنية على «مبادئ الاحترام والثقة». ووصف المحادثات بأنها كانت «صريحة وتنم عن خصوصية العلاقة بين بلدينا وعمقها وتشعبها». كما جاء كلام ماكرون في السياق نفسه خلال حديثه عن «النظرة إلى المستقبل»، والتغلب على القضايا، التي حالت وتحول دون تعزيز التعاون والعمل المشترك.
وبعيداً عن أدبيات الاستقبال والبروتوكولات، فإن النتيجة الأولى الرئيسية لعودة التلاقي الفرنسي - الجزائري هو اتفاق الطرفين على تشكيل مجموعة من اللجان الحكومية المشتركة في «القطاعات الاستراتيجية والاقتصادية». علماً بأن باريس تشهد تراجعاً مقلقاً لحضورها في الاقتصاد الجزائري لصالح منافسين من الصين وتركيا وإيطاليا وغيرها. كما يريد الطرفان الالتفات بشكل خاص إلى إطلاق الشراكات المتجددة والمبدعة، وعدم الاكتفاء بالأشكال والصيغ السابقة لجهة التعاون «الفوقي». ومن هنا تكمن الأهمية التي أولاها ماكرون للقاء رجال الأعمال من الشباب ومن الرياضيين والمثقفين والفنانين بحيث يكون التلاقح متنوعاً وشاملاً.
وفي المجال الأمني، يعي الجانب الفرنسي أنه بحاجة للجزائر في منطقة «الساحل» التي تشكو من النزاعات والإرهاب. كما أن خروج قوة «برخان» الفرنسية من مالي يشكّل فشلاً بيّناً لباريس بعد وجود عسكري تواصل لمدة تسع سنوات. يضاف إلى ذلك أن فرنسا تعاني من المنافسة في بلدان كانت ضمن دائرة نفوذها التقليدي. ومن هنا، فإن توافق الطرفين على «العمل المشترك» من أجل الاستقرار في مالي ومنطقة الساحل وليبيا والصحراء يبدو بالغ الأهمية. كما أصبح اليوم واضحاً أن باريس تعوّل على الجزائر التي أبقت على خطوط التواصل مع المجلس العسكري في مالي، خصم فرنسا، وهي مهتمة بالوضع الليبي، وتتمتع بعلاقات جيدة مع سلطات النيجر، وبنسيج من العلاقات مع الكثير من العواصم الأفريقية. ولا شيء يمنع أن يتعاون الطرفان سياسياً وأمنياً، ولكن أيضاً اقتصادياً، والاستثمار معاً في الكثير من البلدان الأفريقية.
وقبل الزيارة، رأت وسائل إعلام أن مبررها الأول البحث عن مصادر بديلة للغاز الروسي، إلا أن ماكرون عمد أمس إلى دحض هذا الادعاء، معتبراً الأخبار المتداولة «تافهة»، وأكد أن فرنسا «لا تستهلك كميات كبيرة من الغاز... وعلاقتنا مع الجزائر ليست مبنية على الغاز فقط». أما بالنسبة للاتفاق الذي حصل بين الجزائر وإيطاليا لحصول روما على مزيد من الغاز الجزائري، فقد عدّه ماكرون «أمراً طبيعياً»، بالنظر إلى أن إيطاليا «قد تكون بحاجة أكثر للغاز، ومصلحة فرنسا من مصلحة دول الاتحاد الأوروبي».
وما يجعل ماكرون مرتاحاً في ملف الغاز هو أن بلاده تعتمد على المحطات النووية لإنتاج الكهرباء، ولا تعاني من تبعية ذات معنى إزاء الغاز الروسي، كما هو حال ألمانيا أو إيطاليا أو دول أوروبية كبرى أخرى. بيد أنه تجدر الإشارة إلى أن ماكرون حث أول من أمس في معرض دعوته الجزائر إلى التعاون لوضع حد للحرب في أوكرانيا، على العمل «للتصدي معاً» لتبعات الحرب الروسية على أوكرانيا، ذاكراً منها الإنسانية والغذائية، ولكن أيضاً على صعيد الطاقة، وهو ما فُهم منه أن ملف الغاز تم بحثه بين الطرفين، وأنه دعوة للجزائر لأن تلعب دوراً في الحلول مكان الغاز الروسي. والحال أن الجزائر وموسكو تقيمان علاقات تعاون ودية، وقد بقيت السلطات الجزائرية بعيدة عن إدانة الحرب المشار إليها. فيما يرى اختصاصيو قطاع الطاقة أن الجزائر، التي تعد من بين الدول العشر الأولى في تصدير الغاز في العالم، لا تستطيع الحلول محل روسيا، وأن زيادة إنتاجها تفترض حصول استثمارات ضخمة في هذا القطاع. لكن الواضح أن استفحال أزمة المحروقات وانعكاسها على الحياة اليومية للمواطنين الأوروبيين، جعل الجزائر قِبلة للقادة الباحثين عن حلول لتوفير الغاز لصناعاتهم وللاستخدامات المنزلية، تجنباً لحركات احتجاجية على غرار ما عرفته فرنسا مع «السترات الصفراء».
واليوم يُنهي ماكرون زيارته للجزائر من مدينة وهران، حيث أُعد له برنامج ثقافي - فني - رياضي ولقاءات مع شخصيات متنوعة الاهتمامات، وسيعود إلى الجزائر العاصمة للتوقيع على بيان تعاون مشترك بين البلدين.