التوتر بين مصر وتركيا يعود مرة أخرى من بوابة ليبيا

تطور يتطلب المزيد من التنسيق

القاهرة

 بددت تركيا ملامح الهدوء الظاهر في علاقتها مع مصر بعد أن أقدمت على توقيع مذكرة تفاهم جديدة في طرابلس مع حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة عبدالحميد الدبيبة بشأن التنقيب عن الغاز والنفط في مياه البحر المتوسط، ما يعيد إلى الأذهان خلافات سابقة مع القاهرة وحلفائها عندما وقّعت أنقرة مذكرات تفاهم مع الحكومة السابقة برئاسة فايز السراج قبل نحو ثلاث سنوات.

وطعنت مصر واليونان في توقيع المذكرة الجديدة واتفقتا على التنسيق للرد عليها، حيث يعارض البلدان أيّ نشاط تركي في مناطق متنازع عليها في شرق البحر المتوسط.

وتلقّى وزير الخارجية المصري سامح شكري الاثنين اتصالاً هاتفياً من نظيره اليوناني نيكوس ديندياس تناولا فيه تطورات العلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية، وأكدا أن حكومة الدبيبة “لا تملك صلاحية إبرام أيّ اتفاقات دولية أو مذكرات تفاهم”.

ومن المفترض أن يقوم ديندياس بزيارة إلى القاهرة الأحد المقبل للتباحث حول الآلية التي سيتعامل بها الطرفان مع هذا التطور الذي يتطلب المزيد من التنسيق بين مصر واليونان وقبرص، ويعيد إلى الأضواء ملف ترسيم الحدود البحرية الشائك والالتزام به.

وتحدى وزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو، من طرابلس، أي تحرك يمكن أن تقوم به القاهرة وأثينا أو غيرهما، بإشارته اللافتة الاثنين إلى أن الاتفاقيات المتعلقة بالتنقيب عن النفط والغاز تتضمن حقوق البلدين في موارد البحر المتوسط ويجب استغلالها “ولا يحق لأيّ بلدان أخرى التدخل أو إبداء رأيها”.

وقد وضعت الخطوة التركية حيال ليبيا مصر في موقف يستدعي منها التخلي عن حالة الهدوء التي طغت على علاقتها بأنقرة خلال الفترة الماضية بعد أن أبدت الأخيرة مرونة شكلية في التعامل مع ملف جماعة الإخوان المسلمين، ولم تقدم على مواقف تستفز القاهرة في ملف الأزمة الليبية من دون أن تحدث تغييرا جوهريا في الملفين.

وما كانت القاهرة تتحسب منه مؤخرا حيال عدم يقينها في إمكانية إصلاح العلاقة مع أنقرة على قاعدة الحفاظ على المصالح المشتركة، بدأ يتحقق مع الإعلان عن توقيع مذكرة التفاهم مع حكومة الدبيبة في طرابلس، والتي تشير إلى أن النظام التركي لم يتخل لحظة عن أحلامه وطموحاته وتطلعاته في السيطرة على مفاتيح ليبيا.

وأكدت هذه المذكرة أن الحذر الذي تعاملت به مصر مع تركيا كان صائبا، وأن شكوكها التي دفعتها إلى التريث في التجاوب مع ما أبدته أنقرة من تجاوب رمزي مع مطالب القاهرة باتت صحيحة الآن، وتيقنت أن ليبيا فضاء فسيح نجحت تركيا في توظيفه لصالحها أثناء تذبذب تفاعل العديد من الأطراف مع الأزمة، وباغتت قوى إقليمية ودولية بخطوة تربك كل الحسابات التي أقيمت على إمكانية تغيير سلوكها في المنطقة.

ويرى متابعون للتوجهات المصرية والتركية في ليبيا أن الأولى تعتمد على رد الفعل، بينما تمتلك الثانية القدرة على المبادرة ما يمنحها فرصة لأن تسبق جميع منافسيها بخطوة أو أكثر وتتحول تصرفاتهم إلى ملاحقة لها.

وحوّلت هذه الميزة أنقرة إلى رقم مهمّ في الكثير من الأزمات الإقليمية والدولية وتفاعلاتها اللاحقة، وجعلت القاهرة رقما هامشيا مع أنها تملك من المقومات ما يؤهلها للتفوق على أنقرة في ليبيا المجاورة التي تشترك معها في حدود تتجاوز الألف كيلومتر، بينما تبعد سواحل ليبيا وأراضيها عن تركيا الآلاف من الكيلومترات.

وما ساعد على تفوق تركيا أن لديها رؤية واضحة لما تريده في ليبيا وشرق البحر المتوسط وأهدافا مستقبلية تعمل على تحقيقها بشتى الطرق، مستخدمة القوة العسكرية تارة والدبلوماسية تارة أخرى، وبدأت تناطح مصر في مناطق نفوذها التقليدية في شرق ليبيا وتستميل العديد من القيادات المحلية القريبة من القاهرة.

ويقول المتابعون إن مصر التي مدت بصرها نحو غرب ليبيا لإحداث توازن في العلاقة معه والشرق لم تتمكن من كسب ثقة الغرب تماما أو الحفاظ على الشرق.

بينما عززت تركيا وجودها السياسي والعسكري في الغرب ونجحت في استقطاب عناصر من الشرق، كشفها تعدد زيارات مسؤولين كبار فيه إلى أنقرة، بمن فيهم رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح الرجل المقرب كثيرا من القاهرة، مع إشارات سابقة لم تستبعد قيام قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر بزيارة إلى أنقرة.

وأحبطت مذكرة التفاهم الموقعة مع الدبيبة الكثير من الطموحات المصرية لعزله بسبب انتهاء ولايته، وهو ما عبّرت عنه القاهرة بخشونة دبلوماسية في اجتماع المجلس الوزاري العربي في سبتمبر الماضي عندما انسحب الوفد المصري برئاسة وزير الخارجية عند الإعلان عن صعود وزيرة خارجية ليبيا نجلاء المنقوش لإلقاء كلمة وتسلم رئاسة الدورة الجديدة لوزراء الخارجية بمقر الجامعة العربية في القاهرة.

وحصلت القاهرة على تطمينات من قبل قوى دولية بأن حكومة الدبيبة لن تستمر وستغادر طرابلس وأن الحكومة المكلفة من مجلس النواب الليبي برئاسة فتحي باشاغا وتتخذ من بنغازي مقرا لها أمامها فرصة لتولي القيادة بدلا منها.

وتبخرت الوعود أو التطمينات وبدا الدبيبة متمترسا في موقعه، والمجتمع الدولي غير عابئ بإشكالية رحيله أو بقائه في السلطة، والمطلوب من القاهرة هو إعادة التموضع للتعامل مع المستجدات التي قد تدفعها إلى تشجيع خيار الفيدرالية في ليبيا الذي بدأ يتصاعد النقاش حوله داخل البرلمان وفي دوائر سياسية مختلفة.

وعلى العكس، حافظت تركيا على علاقتها بالدبيبة ولم تخسر باشاغا الذي كان يعد أحد رجالاتها في طرابلس خلال حكومة السراج، وظلت تعزز وجودها السياسي والعسكري في الغرب وتواصل تسللها إلى الشرق الليبي.

وبدأت التحركات المصرية على المسار الاقتصادي، في المقابل، تواجه متاعب كبيرة في ليبيا، وتواجه حزمة الاتفاقيات التي عقدتها القاهرة مع حكومة الدبيبة العديد من العثرات الآن.

وتعيد مذكرة التفاهم الجديدة السخونة الإقليمية في التعامل مع الأزمة الليبية وتدفع مصر إلى التخلي عما يوصف بـ”الاسترخاء” في التعامل معها، والذي قام في جزء منه على أن الصدام مع تركيا مستبعد، حيث بدت الأخيرة محافظة على الخط الأحمر العسكري الذي رسمه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بشأن سرت – الجفرة، مستعيضة عنه بتسلل ناعم لا يغضب القاهرة كثيرا.