الأزمة الليبية..

بنغازي.. تاريخ جديد لفضيحة السياسة الخارجية الأميركية

"أرشيفية"

سوريا

 يتهم البعض الدوائر السياسية الأميركية بأنها لم تأخذ على محمل الجد حادث مقتل السفير الأميركي في بنغازي كريستوفر ستيفنز وثلاثة آخرين في سبتمبر 2012 بعد هجوم وقع على البعثة الدبلوماسية الأميركية في المدينة، ويكشف إيثان كورين في كتابه “بنغازي” عن العديد من الروايات المعقدة والمربكة حول حدث كانت تداعياته خطيرة على السياسة الأميركية المحلية، جاعلاً من كتابه شهادة قوية على هوية الولايات المتحدة الممزقة وتأثيرها المتضائل في الشرق الأوسط.

ويطرح كورين رؤى جديدة ومهمة في تقديم إعادة نظر مذهلة في أحد الخلافات المحددة في السياسة الخارجية الأميركية الأخيرة، حسب فرانسيس غيليس في “عرب دايجست”، حيث يحاجج بأنه وبدلا من تحليل هذا الحدث التاريخي بعمق، أصبح اغتيال ستيفنز حجة أو كلمة فارغة تعكس الغضب والإحباط، أو رمزا للجدل ضد هيلاري كلينتون.

كورين دبلوماسي سابق أرسِل إلى طرابلس بين العامين 2004 – 2006 وهو يعرف ليبيا وسكانها جيدا. علاوة على كونه محللا سياسيا ومؤلفا ورائد أعمال بيئي، تحمل كتبه عن ليبيا ومقالاته في “نيويورك تايمز” و”فاينانشيال تايمز” و”فورين أفيرز” و”فوربس” أهمية ووزنا كبيرين. يتكلم العربية والفرنسية والفارسية بطلاقة، وكوّن شبكة واسعة من الأصدقاء والمعارف المهنيين على مدى أكثر من 30 عاما من العمل في الولايات المتحدة وليبيا والشرق الأوسط.

خبرته تلك تمنح أعماله نسيجا شبه أنثروبولوجي، على الرغم من أن القارئ يضيع أحيانا في التعقيد الهائل للمجموعات الفرعية والصلات القبلية التي تشكل ليبيا الشاسعة، إذ ليس من السهل تفسير كيف ولماذا أثّرت طريقة رد الولايات المتحدة على ليبيا في استجابة البلاد للأحداث في سوريا واليمن وإيران دائما.

ما هو مثير للاهتمام وذو صلة كبيرة اليوم هو الارتباك الواضح في فهم واشنطن للإسلام السياسي. وعن ذلك يقول كورين إن “هجوم بنغازي، والفضيحة التي نتجت عنه، مرتبطان ارتباطا وثيقا بمفهوم الإسلام السياسي وعلاقة الولايات المتحدة غير المتسقة معه”.

إعداد رد الفعل

بالعودة إلى الغزو السوفياتي لأفغانستان في 1979 حين كانت الحرب الباردة في نقطة انعطاف، نجد أن الولايات المتحدة رأت فرصة لجذب الكرملين إلى حربها في فيتنام من خلال توفير الأسلحة والتدريب والإمدادات للمجاهدين، حتى أنها ساعدت في تمويل خطط التجنيد. واعتقدت واشنطن وقتها أنه إذا كان بإمكانها إشراك الإخوان المسلمين، فربما سيمكنها سحب الحركة بأكملها بعيدا عن فروعها الأكثر تطرفا وتحييد تنظيمات مثل القاعدة في هذه العملية. إلا أنها دفعت ثمنا طويل الأمد.

 وقد اجتمع العديد من هؤلاء المقاتلين المتمرسين في القتال حول أسامة بن لادن والمصري المتطرف أيمن الظواهري، وأسسا معا القاعدة في العام 1986. وساد الافتراض الساذج بشكل خطير بأن الإسلاميين المتطرفين سينهون حربهم ضد “الكفّار” بهزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان ولاقى صحوة قاسية ووحشية مع رحيل إحدى القوتين العظميين في العالم، وكانت الولايات المتحدة الهدف الواضح التالي.


وحتى بعد أن جاء تحذير القاعدة من أنها تحوّل الجهاد من العدو القريب إلى العدو البعيد في 1998 لم تأبه الولايات المتحدة بذلك. ويقتبس كورين من جون كولي الذي قال في كتابه عن حرب أفغانستان “عندما تقرر خوض الحرب ضد عدوك الحالي، ألق نظرة فاحصة طويلة على الأشخاص الذين تختارهم أصدقاء لك ومن يقفون وراءهم. انظر جيدا لترى ما إذا كان هؤلاء الحلفاء قد سحبوا بالفعل خناجرهم ووجّهوها إلى ظهرك”.

بعد سنوات، تكرر التحالف مع المجاهدين في أفغانستان مع عواقب وخيمة في ليبيا. فبحلول منتصف التسعينات، جنّدت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة الجماعة الجهادية الليبية الإسلامية المقاتلة لإدارة خططها للتخلص من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي. ويزعم البعض أن علاقة المخابرات البريطانية كانت مدفوعة جزئيا على الأقل بالخوف من أن تبدأ الجماعة في نهاية المطاف التخطيط لهجمات على لندن، لذلك فإن التعامل معها سيخلق نوعا من الحصانة.

بعد أحداث 11 سبتمبر، قرر الأميركيون والبريطانيون أن القذافي يمكن أن ينقلب من شخص سيء إلى صديق. وكتب كورين بسخرية “كانت إم 16 تعمل جنبا إلى جنب مع الأميركيين ونظام القذافي الذي تعرض لضغوط شديدة للإطاحة به بمساعدة الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة”.

ولم تكن الجماعة الليبية المقاتلة فائضة عن المتطلبات فحسب، بل كانت مسؤولية. لذلك، تقرر تسليم الأعضاء البارزين في المنفى بمن فيهم عبدالحكيم بلحاج إلى القذافي. ويقف بلحاج الذي تعرض لتعذيب شديد مع زوجته الحامل في صميم قصة التسليم الاستثنائي الليبي، وكان ضحيته الأبرز وربما المستفيد الأكبر في نهاية المطاف.

تعاون وراء الكواليس

يبرز هذا المسار كمقياس لتفكير الولايات المتحدة وبريطانيا السطحي، فهما تريان أن مثل هؤلاء الأشخاص يمكن الاعتماد عليهم كحلفاء مخلصين. ويقول هذا شيئا عن كيفية خيانة بلحاج وأمثاله بشكل مفاجئ، فهو يخبرنا عن مدى سوء قراءة كلا البلدين للقذافي مع الافتراض اللطيف أنه “أصبح الآن أحدنا”. وبعد سبع سنوات فقط من لقاء توني بلير مع القذافي في الصحراء خارج طرابلس، لعبت واشنطن ولندن دورا فعالا في إزاحته عن السلطة.

ولم تكن ليبيا معروفة جيدا للولايات المتحدة. فقد تبعت حربَ العراق عقود من غياب علاقات دبلوماسية استنزفت بعد 2003 كل الطاقة والمتخصصين في الشرق الأوسط من الوزارات الأميركية الكبرى.

ويرى معظم رجال السياسة الخارجية في واشنطن أن القذافي كان “مجرد مجنون، أو أحمق، أو كليهما. لم نكن نعرف بالتأكيد الكثير عن ديناميكيات عائلة القذافي”، فيما كان لشمال أفريقيا ميزانية مخصصة محدودة في كل من وزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية، وقد نالت الحرب الأهلية الجزائرية نصيب الأسد من موارد الاستخبارات في التسعينات. أما وكالة المخابرات المركزية، وبالتأكيد المخابرات البريطانية، بسبب تعاونها السابق مع الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، فكانت على دراية بحرب القذافي مع الجماعة وارتباطاتها بالقاعدة.

ووفر القذافي للمملكة المتحدة والولايات المتحدة قائمة هويّات أصحاب المناصب في قيادة الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة. وتعقباها وأعاداها إليه. لذلك، بينما كانت واشنطن ولندن تصوغان صفقة مع القذافي كخطوة نحو الإصلاح وتعزيز الديمقراطية، كانت وراء الكواليس تنتهك حقوق الإنسان الأساسية للإرهابيين المشتبه بهم بينما كانت تتابع حملات بن لادن الإرهابية المستقبلية.

ويبقى مقتل السفير ستيفنز وزملائه الثلاثة حادثاً يجب أن يُنظر إليه ليس كشيء يُترك في الماضي، أو كحاشية تاريخية غريبة، ولكن كدرس موضوعي في كيفية فشل الدبلوماسية والسياسة الخارجية بسبب الجهل والغطرسة.