عشرات الآلاف شاركوا في مراسم تنصيبه وسط تعزيزات أمنية واسعة
آمال وصعوبات كبيرة تنتظر لولا العائد إلى رئاسة البرازيل

لولا دا سيلفا ووزيرة السكان الأصليين في برازيليا أمس
بعد 4 سنوات على مبايعة أول رئيس يميني متطرف في تاريخها استقطب الغضب المتراكم ضد الطبقة السياسية وأغرق الحكومة بالعسكر، تعود البرازيل مع بداية هذا العام إلى السياسة الكلاسيكية مع لويس إيغناسيو لولا دا سيلفا، الذي سبق أن تولّى الرئاسة في عام 2003 ثم في 2010، والذي وعد مواطنيه أمس بأنهم سوف يشعرون من جديد بالسعادة، وأن أولوياته هي تنشيط الاقتصاد، ومكافحة الجوع والفقر، واستعادة الدور الذي كانت تتمتع به القوة الأميركية اللاتينية الأولى على الساحة الدولية. ومع عودة لولا إلى الحكم، يترسّخ التمدد الإقليمي لليسار الذي بدأ بحلم بعودة العصر الذهبي للقوى التقدمية في المنطقة.
عشرات الآلاف من أنصار «حزب العمال» توافدوا من جميع أنحاء البرازيل المترامية إلى العاصمة، وقطع بعضهم آلاف الكيلومترات، رافعين الرايات الحمر لقضاء ليلة رأس السنة أمام القصر الرئاسي للاحتفال بالديمقراطية وعودة العامل الفقير للمرة الثالثة إلى قمة السلطة بعد أن كان الشخصية المحورية للسياسة البرازيلية طوال العقود الثلاثة الماضية. وترافقت مراسم تنصيب لولا بتعزيزات أمنية واسعة لمواجهة تهديدات محتملة. وتمت تعبئة جميع عناصر الشرطة في منطقة برازيليا والبالغ عددهم نحو ثمانية آلاف، بالإضافة إلى ألف شرطي فدرالي يمكن أن يدعمهم عناصر من القوات الوطنية إذا لزم الأمر. كما تمّ تحديد عدد الأشخاص الذين يمكنهم متابعة خطاب لولا أمام قصر بلانالتو بـ30 ألفا، وحظرت السلطات حمل الأسلحة لمعظم المدنيين.
وتتوّج هذه الاحتفالات عودة لولا السياسية ونهاية عصر بولسونارو الذي قرّر مغادرة البلاد تهرّباً من تقليد خصمه وشاح الرئاسة، وسافر برفقة زوجته إلى فلوريدا معقل صديقه ومثاله الأعلى دونالد ترمب. وجاءت المفاجأة التي لم يكن بولسونارو يتوقعها من نائبه «الجنرال موراو» الذي وجّه كلمة متلفزة إلى المواطنين بصفته الرئيس المكلّف، انتقد فيها رئيسه السابق لخلق جو من الفوضى وتشويه صورة القوات المسلحة التي ينتقدها أنصار لولا بالتحريض على القيام بانقلاب، فيما يعيب عليها أنصار بولسونارو أنها لم تقم بواجبها.ولأن بولسونارو غادر من غير أن يعترف بفوز لولا، فيما أنصاره يواصلون تحريض القوات المسلحة على «إنقاذ البرازيل»؛ اتخذت الأجهزة الأمنية تدابير غير مسبوقة لحماية الرئيس الجديد خلال حفل التنصيب، ونشرت 8 آلاف عنصر في جميع أنحاء العاصمة، وعشرات القنّاصين والطائرات المسيّرة، ومنعت المدنيين من حمل الأسلحة الفردية التي كانت قد انتشرت بكثرة بفضل القوانين التي سنّها بولسونارو. وكانت الشرطة قد نصحت لولا بارتداء سترة واقية من الرصاص وعدم استخدام سيارة مكشوفة، لكنه أصرّ على عدم تغيير عاداته وجاب الشوارع بين الجماهير يصافح أنصاره.
وشارك في حفل التنصيب عدد كبير من القادة والزعماء الأجانب؛ بينهم العاهل الإسباني فيليبي السادس، ورئيس الأرجنتين ألبرتو فرنانديز، والرئيس الكولومبي غوستافو بيترو، ورئيس البرتغال مارسيلو ريبيلو، ورئيس تشيلي غابرييل بوريتش، والرئيس الألماني فرنك ولتر شتاينماير. ولم يحضر الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو رغم أن لولا كان قد وجّه له دعوة بعد أن رفعت الحكومة السابقة الحظر الذي كان مفروضاً عليه وعدم دخول البرازيل.
لكن البلاد؛ التي تنتظر لولا في ولايته الثالثة، تختلف كثيراً عن التي تركها في نهاية ولايته الثانية، ليس فقط لأن بطولة العالم لكرة القدم ما زالت تتمنّع عليها منذ عقدين؛ بل لأن المشهد الاقتصادي لم يعد واعداً كما كان عليه، ولأن الشرخ الاجتماعي الذي تعاني منه البلاد لم تعرفه منذ عهد الأنظمة العسكرية.
عندما تسلّم لولا مهامه في الولاية الأولى عام 2003، كان سلفه فرناندو كاردوزو قد تمكّن من ترويض التضخم الجامح بعد أن وصل إلى ألفين في المائة أواسط تسعينات القرن الماضي. وتبنّى لولا برنامج كاردوزو الذي سمح له بتحقيق إنجازات اجتماعية كبيرة في ظل نسبة تضخم دون 10 في المائة، فيما كانت أسعار المواد الأولية تسجّل ارتفاعات قياسية بفضل شراهة الاقتصاد الصيني. وعندما غادر لولا الرئاسة في عام 2010 كان عدد الفقراء في البرازيل قد تدنّى من 50 مليوناً إلى نحو النصف. أما اليوم؛ فقد عادت أسعار المواد الأولية إلى الانخفاض، فيما ارتفعت أسعار الطاقة وأصبح التضخّم قاسماً دولياً مشتركاً.
وكان لولا، في بداية حملة الانتخابات التي قادته إلى الرئاسة الأولى، قد وجّه «رسالة إلى الشعب البرازيلي» بهدف تطمين المراكز الاقتصادية، واختار رجل أعمال ليكون المرشح لمنصب نائب الرئيس. لكنه اضطر في الحملة الأخيرة إلى توجيه «رسالة إلى الإنجيليين» يعلن فيها أنه ضد الإجهاض ويتعهد بعدم استخدام الدين لأغراض سياسية. ويقول معاونوه إنه تردد طويلاً قبل الإقدام على تلك الخطوة التي أملاها في النهاية النفوذ الاجتماعي والسياسي الواسع للكنيسة الإنجيلية التي كانت راهنت أغلبيتها الساحقة على فوز بولسونارو.
ويعود الفضل إلى لولا في انضمام البرازيل إلى مجموعة «بريك» التي تضمّ الصين وروسيا والهند، وهو الذي جعل من بلاده، ومن شخصيته الذاتية، علامة مسجلة في الدبلوماسية الدولية أتاحت للبرازيل تنظيم الألعاب الأولمبية وبطولة العالم لكرة القدم، فيما كانت الاستثمارات الضخمة تتهافت عليها. لكن السنوات الأربع الأخيرة على عهد بولسونارو وما سبقها من فضائح أدّت إلى عزل الرئيسة ديلما روسّيف التي خلفت لولا، فرضت طوقاً من العزلة الإقليمية حول البرازيل التي كان وجودها ينحسر تدريجياً على الساحة الدولية.