انهيار بطيء يتربص بصناعة الألبان التونسية

يقوض تراكم الأزمات في تونس صناعة الألبان التي تشكو من تحديات لا حصر لها، وسط تعالي الأصوات المحذرة من انهيار بطيء للقطاع بسبب تكاليف الإنتاج والجفاف، فيما يكابد المستهلكون متاعب للظفر بالحليب الذي اختفى من أرفف المتاجر طيلة أشهر.

سقف استهلاكي محدود

تونس

تدق أوساط صناعة الألبان في تونس أجراس القلق مجددا منذرة من خطر عدم استدامة نشاط القطاع، والذي سيشكل سقوطه تهديدا لقوت السكان، وضربا لأحد أهم المجالات الحيوية بالبلاد.

ولطالما حشد الصناعيون والمنتجون جهودهم للضغط على السلطات للإسراع في إيجاد حل جذري ينقذ القطاع من أزماته المتراكمة، خاصة وأن الحكومات المتعاقبة تلكأت في معالجة المشكلة من جذورها، والتي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى منذ 2011.

ويتذمر معظم السكان من هذه المعضلة، وكغيرها من المستهلكين، تجوب نورة بشيني الخمسينية يوميا محلات تجارية بحثا عن علبة حليب، حيث المادة مفقودة منذ أشهر بسبب تراجع منظومة الإنتاج.

وتقول بشيني لوكالة الصحافة الفرنسية “هناك محلات لا يوجد فيها حليب”، وإن توفّر “لا أستطيع شراء أكثر من علبتين”، مضيفة “لا غنى عن الحليب بالأخص لأطفالنا”.

وبدأت بوادر الأزمة في نهاية أكتوبر الماضي، ولجأت الأسواق التجارية والدكانين إلى وضع لافتات كتب عليها "علبتان من الحليب لكل مواطن"، بينما باتت صفوف من عشرات المواطنين بشكل شبه يومي أمام المحال لشراء المادة مشهدا مألوفا.

وتستهلك السوق المحلية يوميا قرابة 1.8 مليون لتر من الحليب، لكن الإنتاج لا يوفر سوى نحو 1.2 مليون لتر، فيما نفد المخزون الإستراتيجي في بلد يناهز عدد سكانه 12 مليون نسمة.

ويرجِع خبراء قطاع إنتاج الحليب أسباب الأزمة إلى عوامل من أبرزها ارتفاع أسعار الأعلاف التي أصبحت تثقل كاهل مربي الأبقار، فضلا عن تراجع كبير في عدد القطيع.

وباع المزارع محمد الغرسلاوي أربع بقرات حتى يتمكن من شراء الأعلاف لبقية بقراته العشرين بعد تراجع مردودها من الحليب إلى أكثر من النصف.

ويقف الغرسلاوي أمام قطيعه وهو يرعى بمنطقة البطان على بعد أربعين كيلومترا غرب العاصمة وبين يديه فواتير أكياس العلف، التي تمكّن جاهدا من شرائها، ويقول “كانت البقرات مصدر الدخل الأساسي للعائلة”.

لكنّ المُزارع الذي يعيل أسرته تتكون من زوجته وأربعة أبناء متزوجين، أكد أن الوضع اختلف الآن “وبات علينا البحث عن مال لإطعام البقرات".

وكان يشتري كيس العلف البالغ وزنه 50 كيلوغراما مقابل عشرة دنانير (نحو 3.5 يورو) منذ عشر سنوات، قبل أن يرتفع السعر إلى 81 دينارا (24 يورو).

ونتيجة ذلك، نقص العلف وتراجعت كميات الحليب، لأن الأبقار لا تحصل على تغذية كاملة. وأوضح الغرسلاوي أن البقرة كانت سابقا تدرّ في المتوسط 30 لتر حليب يوميا وانخفض المعدل إلى 12 لترا.

وقال "نقدم لها نصف كمية العلف والعشب السابقة”. ويتكبّد بذلك خسارة تقدر بثلاثين في المئة عن كلّ لتر حليب يبيعه لأحد المصنّعين الكبار في البلاد.

وتساهم منظومة الألبان بنسبة 11 في المئة من الإنتاج الزراعي و25 في المئة من الإنتاج الحيواني، فضلا عن أهميتها في الصناعات الغذائية بنسبة سبعة في المئة.

ويوضح مساعد رئيس اتحاد الفلاحة والصيد البحري أنيس خرباش أن هناك "ارتفاعا جنونيا" في أسعار الأعلاف منذ أكثر من عام، بمعدّل يتراوح بين 30 و40 في المئة. وأرجع الأمر الى آثار الحرب في أوكرانيا، التي تمثل أهم مصدر لاستيراد الحبوب لتونس.

ومع تواصل أزمة نقص الحليب، تتزايد المخاوف من استفحالها. ويقول خرباش "هناك نقص في السوق بواقع 30 في المئة، ومع حلول شهر رمضان الذي يتزايد خلاله الاستهلاك سيبلغ النقص مليون لتر يوميا".

وفي حال استمرت المشكلة، فإن الحكومة قد تضطر إلى الاستيراد لتغطية النقص، لكن ذلك قد يكلف الخزينة أموالا إضافية لم تكن في الحسبان.

ولم يعد المزارعون يعتمدون بشكل حصري كما كان الأمر في السابق على المراعي الطبيعية بسبب تراجع كميات الأمطار نتيجة التغيرات المناخية التي تؤثر بشكل مباشر على توفر العشب.

وتشهد تونس موجة جفاف حادة منذ أشهر ولم تتجاوز نسبة امتلاء السدود عتبة 30 في المئة، وفق اتحاد المزارعين.

ويشعر المزارعون ومربو الأبقار بإحباط نتيجة لذلك. ولم يجدوا من حلّ أمام تفاقم خسائرهم سوى إنقاص عدد ماشيتهم، سواء ببيعها للجزارين أو إلى تجّار من الجزائر المجاورة، وفق ما يقول متابعون للقطاع.

ويقدّر اتحاد المزارعين تراجع قطعان أبقار الحليب بنحو 30 في المئة خلال العام الماضي، بحيث يبلغ الآن 410 آلاف رأس.

وحذر خرباش من أن الأزمة قد تتواصل ما لم تتخذ الحكومة إجراءات لوقف تدهور القطاع الذي حرصت الدولة على إقامته ودعمه بعد الاستقلال منذ نحو ستين عاما، وحققت فوائض في الكميات المنتجة في العامين 2014 و2016، ما سمح لها بتصدير الفائض.

ويقول “هذا انهيار بطيء، ما يهدم في أشهر من الصعب ترميمه، يتطلّب ذلك سنتين أو ثلاثا”. ويرى أنّ الحلّ يكمن في "أن تكون الأسعار متحركة مع ارتفاع سعر الأعلاف وانخفاضها عالميا".

وتعتبر السلطات أن نقص التزود مرده أساسا المضاربة في الأسواق. فقد اتهم الرئيس قيس سعيّد خلال زيارته إلى مصنع لإنتاج الألبان مطلع ديسمبر الماضي أن “المحتكرين” هم السبب الأساسي وراء ذلك.

واكتفت الحكومة بإقرار حذف الضرائب المفروضة على استيراد مسحوق الحليب المجفف في ميزانية 2023، واعتبر الاتحاد أنه "كان من الأجدى توظيف الدعم المالي لدعم المنتجين المحليين".

والحليب واحد من مواد عدة شحيحة في السوق على غرار السكر والقهوة وزيت الطبخ والطحين. ويؤكد خبراء أن الحكومة التي تحتكر صلاحية استيراد المواد الغذائية الأساسية في البلاد، لا تملك السيولة الكافية من العملة الصعبة للاستيراد والدفع الفوري للمزودين.

وتأتي أزمة الحليب فيما يواجه الاقتصاد أزمات منذ 2011 اشتدّت مع اندلاع الحرب في شرق أوروبا وارتفاع أسعار المواد الأوليّة في السوق العالمية.

وتجري تونس مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة ملياري دولار لسد عجز الميزانية، مقابل تنفيذ برنامج إصلاحات أساسه مراجعة برنامج الدعم وخصخصة شركات عامة بشكل كامل أو جزئي.