رغم التحديات والصعوبات.. الزليج الفاسي المغربي تراث عريق يزدهر

"أرشيفية"

دبي

تبدو مدينة فاس المغربية وهي تطل من على ربواتها كشيخ جليل متشح بالبياض، في كل ركن وزاوية من أزقتها العتيقة يحدثك التاريخ وتقف الذاكرة شاهدة على حضارة وعراقة المدينة متجلية في معمارها وقصورها البديعة، والتي تصنفها منظمة اليونسكو كتراث إنساني عالمي. ولعل ما يصنع فخامة معمارها القديم وقصورها هو الزليج المغربي التقليدي بلمسة فاسية تختلف عن زليج تطوان أو مراكش.

فالزليج، الفسيفساء المغربية، لا يزال يصنع يدوياً بدقة ومهارة عالية، لم يخفت الطلب عليها داخلياً أو خارجياً، أمام مغريات الحياة العصرية، بل كما يقول محمد بن غالي التحيفة متخصص في فن الزليج ورئيس سابق لغرفة الصناعة التقليدية بفاس لرويترز: "الزليج له زبائن متميزون، ليس الأثرياء فقط نظراً لكلفته، لكن أيضاً ذوو الثقافة".

تزايدت صادرات الزليج المغربي إلى الخارج من 2016 إلى 2022، وتأتي الولايات المتحدة على رأس المستوردين بأكثر من 68%، تليها الدول الأوربية بنحو 18% . وعرف القطاع حسب إحصائيات رسمية "تطوراً اقتصادياً واجتماعياً وتقنياً متميزاً في العقود الأخيرة، حيث انتقل عدد الصناع من 2400 في العام 2005 إلى أزيد من 6300 في 2022، أي بزيادة 160% ".
وشكلت الصادرات من الزليج 82% من صادرات الصناعة التقليدية بفاس في 2020 بـ57.9 مليون درهم (نحو 6 ملايين دولار).
عبق التاريخ
تغير الزليج الفاسي عبر التاريخ منذ تأسيس المدينة التي اعتبرها العرب والمسلمون حاضرة للغرب الإسلامي في 172 هجرية (789 ميلادية).
وتحول من قطع فسيفساء بسيطة في زخرفها وألوانها إلى قطع بأشكال هندسية بديعة ومنمقة تصل أحياناً إلى درجة التعقيد، وألوان متناسقة بين درجات الأخضر والأزرق والأحمر، إذ شهد الزليج الفاسي تطوراً في شكله وألوانه في فترة حضارة الأندلس.
ويتميز زليج فاس بالأحجام الصغيرة والدقيقة على شكل نجمات صغيرة ومعينات ومستطيلات تتشكل فيما بينها وتترتب بشكل هندسي دقيق. ويقول أستاذ التاريخ والآثار بجامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس والمفتش السابق للمباني التاريخية بفاس منير أقصبي إن "هذه الصناعة عرفت تطوراً كبيراً في عهد المرينيين الذين حكموا المغرب من القرن 13 إلى القرن 15 الميلادي".
واستشهد بالمؤرخ المغربي الحسن الوزان الذي يتحدث عن ازدهار هذه الصناعة بشكل غير مسبوق بفاس، والمدارس والجوامع التي ترجع لهذه الفترة خير دليل.
وأضاف "أن الزليج من الوعاءات المهمة، إلى جانب الجص والخشب التي أبدع في تشكيلها الصانع الفاسي، فلا تكاد تخلو  بناية تاريخية بالمدينة من وحدات الزليج التي تغطي الجزء الأسفل من الواجهات التي تحيط بالفناءات في المساجد أو المدارس أو المنازل أو الأضرحة والزوايا، وعليها نقشت الأدعية والآيات القرآنية بأنواع من الخطوط خصوصاً الخط المغربي الذي زينت أحرفه بتشكيلات نباتية، وخير مثال ضريح مولاي إدريس مؤسس مدينة فاس". ويقول: "ما يمز الزليج الفاسي هو مادته الطينية، إذ لا نجد هذا النوع من الطين إلا في ضواحي فاس وهو يتميز بليونته وصلابته، فهو لين وطيع في أنامل الصانع الفاسي الماهر".
ويفترش الصانع عبدالحق الكوبي الأرض وهو يرص قطع الزليج الصغيرة في احتراف لشكل هندسي دقيق رسمه مسبقاً على ورق. وتركب القطع بشكل مقلوب تكون واجهة الزليج للأسفل وظهرها للأعلى ويقول: "لإنجاز متر من الزليج يتطلب ذلك يوماً كاملاً".
ويضيف وهو يتابع عمله بتركيز شديد: "هنالك زخارف سهلة وأخرى معقدة وصعبة جداً، أي خطأ قد يفسد الزخرف".
ويقول أحمد الحكيم صاحب معمل في نفس منطقة عين النقبي: "المغاربة تصالحوا مع تراثهم وأصبحوا مهتمين بهذا الفن".
وأضاف "سعر الزليج الغالي في السوق، أعاد له قيمته، بعكس بعض الصناعات التقليدية التي همشت". وقال: " إن سعر المتر الواحد يتراوح ما بين 600 إلى 6 آلاف أو 7 آلاف درهم".
ورغم الازدهار تواجه الحرفة تواجه تحديات كبيرة، منها نقص المواد الأولية، وغياب جيل من الحرفيين الشباب بسبب مصادقة المغرب على المعاهدات الدولية لمكافحة تشغيل الأطفال تحت 15 عاماً.
ويقول مستشار سابق وعضو مجلس جهة فاس وبرلماني سابق مهتم بالقطاع الناجي الفخاري: "بعض الدول تدرس مثل هذه الحرف في المدارس، نحن نضمن الاستمرارية مادام هنالك إقبال". وأضاف "لابد من التدريب واستكمال التكوين في هذا المجال".
وقال: "هذه عراقيل يمكن تخطيها مادام الطلب على هذه الصناعة الفنية قائماً، نحن مع الدولة في محاربة تشغيل الأطفال، لكن عليها أن تدرس مثل هذه الحرف في المدارس والمؤسسات التعليمية أو مؤسسات التكوين المهني".