ترجمات..
لبنان المغرم بتعويم نظام الأسد

"أرشيفية"
لم يكتف لبنان الامتناع عن حلّ ملف اللجوء السوري بجدّية فحسب، بل امتنع كذلك التصويت على مشروع قرار يصب في صالح عائلات 17 ألف لبناني مخفيين قسراً منذ الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). وقد برّر ديبلوماسية التواطؤ هذه بـ"التماشي" مع "شبه الإجماع العربي، وعدم تسييس الملف الإنساني بامتياز".
وصدَّقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار تنشئ بموجبه مؤسسة مستقلة برعاية الأمم المتحدة، وتهتم بمسألة المفقودين والمخفيين قسرياً في سوريا على أن يتمحور عمل هذه الآلية حول توضيح مصير الأشخاص المفقودين وتقديم الدعم للضحايا وأسرهم.
حظي مشروع القرار الذي أعدته لوكسمبورغ على تأييد 83 دولة، في حين عارضته 11 دولة وامتنعت عن التصويت 62 دولة أخرى من بين الدول الأعضاء البالغ عددها 193 في الجمعية العامة. وقد برزت عدة دول عربية من بين تلك النائية بنفسها عن الملف، كمصر والبحرين والجزائر والعراق والأردن وموريتانيا والمغرب وعمان والسعودية واليمن والإمارات... ولبنان المعني مباشرةً!... إلا أنه وفي مواجهة المجتمع الدولي، لا يكون لبنان "الرسمي" إلا داعمًا مباشرًا للنظام الأسدي على حساب المواطن أو المقيم أو اللاجئ.
هو التنصّل الوطنيّ الأكثر وقاحة حتى الساعة، تهرّب من مسؤوليّة أخلاقية حملها آلاف اللبنانيين وغير اللبنانيين على الأراضي اللبنانية لأكثر من 30 سنة وخطوة من شأنها أن تدفن الحق بعدالة طال انتظارها في ملف الحرب اللبنانية. فالنضال من أجل معرفة مصير المخفيين قسراً في لبنان يعود إلى سنة 1982، شاركت فيه مجموعة من المنظمات المحلية، أبرزها "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان"، "لجنة دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين – سوليد"، "لنعمل من أجل المفقودين" (ACT)، "المركز اللبناني لحقوق الإنسان" وسواها من المنظمات المحلية والدولية.
تمييع الملف
وفي حديث خاص لـ"جسور"، يرى رئيس المركز اللبناني لحقوق الإنسان وديع الأسمر أنّ "السلطات اللبنانية قد برهنت حسّيًّا أنها تابعة وملحق رسميّ للنظام السوري فيما يخص السياسة الخارجية بعد 18 عامًا على اندحار جيش الاحتلال السّوري من لبنان". وأسف الأسمر انحياز الدولة في كلّ مرّة إلى "عدم ايلاء ملف المخفيين قسرًا في السجون السورية أي اهتمام يُذكر علماً أنّ الهيئة المزمع إنشاؤها من شأنها أن تساعد بشكل كبير في إعادة تحريك ملف اللبنانيين في السجون السورية وحتى داخل الأراضي اللبنانية". وما الدليل الأوضح على ذلك، إلا عدم تضمين أي جمعية حقوقية أو أي منظمة متابعة للملفين اللبناني والسوري في الهيئة الوطنية التي أُنشئت عام 2020. وعندها، تم تغييبهم، وعوملوا بإقصاء مباشر، وتبلّغوا أنه من غير المرغوب بهم. ما فسّره الأسمر بأنه خاتمة غير مفاجئة لمنظومة حكم تدور في حلقة عقود من محاولات تبرئة النظام السوري من جرائمه.
وزير لاوطني
أما رئيس جمعية المعتقلين والمخفيين قسراً في السجون السورية علي دهن فقال لـ"جسور" إنه "ردًا على موقف وزارة الخارجية اللبنانية عبدالله بو حبيب الذي تباهى بإعلان امتناع لبنان الرسمي عن التصويت على قرار يُعنى بالمعتقلين والمخفيين قسراً من اللبنانيين والسوريين في سجون الأسد، نحن نُحمّل كجمعية، رئيس مجلس الوزراء والمجلس مجتمعًا، بمن فيهم "اللاوطني" وزير الخارجية كامل المسؤولية. أفلا يخجل ممّا سيقوله التاريخ عنه وعن هذه الحكومة اللاوطنية التي تعمل لصالح قاتل ومجرم حرب وسفاح لعنه الله لعنة أبدية. نحن جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية ندين هذا الموقف الشنيع بحق رفاقنا الـ622 المعتقلين قسراً في سجون الأسد وسنبقى مع من يساعدنا وكل صحافي وسياسي ومواطن عادي وأمّ وأخت وكائنًا من يقف درعًا منيعًا ضدّهم إلى أن يتحقق مبتغانا ونحرّر جميع رفاقنا الأحياء والأموات، على أن نستلم جثامينهم أو رفات من توفوا منهم لندفنهم باحترام في بلدهم" كما دعا الوزير للاستقالة الفوريّة من منصبه وتقديم الاعتذار من ذوي المعتقلين والمخفيين قسراً.
ويعرّف القانون الدولي الإخفاء القسري على أنه "توقيف شخص ما على يد مسؤولين في الدولة أو وكلاء للدولة، أو على يد أشخاص أو مجموعات تعمل بإذن من السلطات، أو دعمها أو قبولها غير المعلن، وعدم الاعتراف بالتوقيف أو الإفصاح عن مكان الشخص أو حالته.
جريمة دولية
وفيما انتهت الحرب الأهلية اللبنانية بقانون عفو غير مشروط دون الالتفات للضحايا ولا الانتباه لوجوب معالجة مشكلتهم، توقّع الناشط السياسي كميل موراني أن يكون لبنان في مقدّمة المطالبين بالهيئة المُستقلة، ووصف الامتناع عن التصويت في حديثه لـ"جسور" بأنها "سقطة جديدة لحكومة تصريف الأعمال، لا بل سقطة لوزير الخارجية ولجبران باسيل وسقطة أخلاقية للتيار الوطني الحر على وجه الخصوص. كونه التيار الذي امتهن عدم المطالبة بالعدالة الترميمية لأهالي المخفيين والمخطوفين والمسجونين قسرًا في سجون الأسد، واحترف تهميش قضيتهم بمقابل التطبيع مع النظام السوري، إذ تذرّع حينًا بشعار "ليش أنا بدي طالب فيهم، خلّي الدولة تتطالب فيهم" وأحيانًا أخرى صار حاكمًا للدولة وارتأى عدم إيلاء الملف أي اهتمام يُذكر".
وتساءل موراني "أفلا يُعتبر ذلك خيانةً عُظمى للشعب اللبناني؟ وإن لم يُعدّ التصرّف هذا خيانةً عُظمى، فما هي الخيانة العظمى إذًا؟" وشدد موراني على أن الإخفاء القسري جريمة دوليّة، وفي ظروف معيّنة يحددها القانون الدولي يُعتبر جريمة ضد الإنسانيّة، ومن هنا تأتي "ضرورة تنحي وزير الخارجية الحالي من منصبه بعد هذا التصرّف الذي اعتبره مشينًا غلى أن يُعيّن بديلًا له بالوكالة لحين انتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة كاملة الصلاحيات".
أما في أمر المخفيين السوريين أو غير اللبنانيين في سجون الأسد، فجاء موقف موراني واضحًا لجهة مناصرتهم قائلًا "نحن وإيّاهم ضحيّة للنظام المجرم ذاته، وكنا نتمنى أن يكون موقف لبنان على قدر من المسؤولية مشرّف ومتناسق مع تاريخ حقوقي وديبلوماسي عريق كمساهم في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومن المستنكر ترك ملفات عالقة مع النظام السوري بهدف تعويمه ليس إلا، من باب "ملف اللاجئين السوريين في لبنان، ملف المفقودين، ملف إلغاء المجلس الأعلى اللبناني السوري، قضية إعتذار النظام السوري على ما فعله بحق الشعب اللبناني وإلغاء معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق والتي يُعدّ من ضمنها المجلس الأعلى السوري اللبناني... حتى ملف ترسيم الحدود اللبنانية انطلاقا من مزارع شبعا وإنهاء الوضع الملتبس لمزارع شبعا."
في الختام بات الاستثمار بالمآسي في لبنان حوضًا واسعًا، يحتوي ملفات "تعويم نظام بشار الأسد": بلاجئين، مفقودين، مخطوفين ومخفيين قسرًا. ولو كانت الحكومة اللبنانية برئاسة ميقاتي مندفعة فعلًا لإيجاد حلول، لا مُغرمةً بترك "خيوط الوصال" مع النظام السوري، فما كانت لتتهرّب من مسؤولياتها في جميع القضايا العالقة معه بل كنّا سنشهد سلسلة من التدابير سهلة التطبيق، يأتي "أضعف الإيمان" منها: إعادة التصديق على المعاهدة الدولية لحماية الأشخاص من الإخفاء القسري أو أقلّه عدم وقوفهم موقف المتفرّج في التصويت على مشروع قرار لإنشاء الهيئة المستقلة المعنية بالمفقودين في سورية تحت رعاية الأمم المتحدة... من باب المصلحة الوطنية العليا!