قلق على الهوية..

ظاهرة التطرف تتنامى من حرق المصاحف في السويد إلى تحوير إحتفالات عاشوراء

"أرشيفية"

فرنسا

تعـد مشـكلة التطـرف مـن أخطـر المشـكلات التـي تواجـه المجتمعـات فـي مختلـف بلدان العالم، سواء كانت هذه البلدان تعتنق الديانـة الإسـلامية أو المسـيحية أو أية ديانـة أخرى. وتؤدي الخلافات وعدم الإستقرار السياسي في المنطقة الذي يطال بعض الأقليات وهجرة بعض أفرادها إلى بعض البلدان الأوروبية واستغلالهم لمساحة الحرية الواسعة المعطاة لهم إلى التعبير بشكل متطرف عن هذه الحرية كما يجري حاليا في السويد والدانمارك مؤخراً من حالات حرق للمصحف الشريف، وتداعيات هذا التطرف البغيض وماهيته ومدى ضرره في المجتمعات في وقت تعاني الكثير من المجتمعات العربية والغربية من تنامي ظاهرة التطرف بين أفرادها.


وعلى صعيد آخر، تحولت الإحتفالات بذكرى عاشوراء كما بان في الأيام الماضية، من مناسبة دينية تاريخية إلى ممارسات عكستها وسائل الإعلام في عدة دول في المنطقة إلى نشر ثقافة عقائدية طائفية خاصة بين الأجيال الصاعدة، قد تؤدي إلى الإحتقان الطائفي الذي بدأ يتجلى وينمو عاماً بعد عام وهذا ما تعكسه بشكل جلي وسائل التواصل الإجتماعي والسجالات التي اشتعلت على مواقع التواصل الإجتماعي الذي بدوره يغذي التطرف في المجتمعات المختلفة.


واستطاع هذا الجوّ المحتقن أن يدفع بالذّكرى إلى تبني بعض التَّقاليد في الواقع الشّعبيّ التّاريخيّ، بحيث أصبحت مجرّد عادةٍ شعبيّة وانفعال بالمأساة جعل الحقيقة تضيع في غمار المبالغات ، وأطلق العنان لخيال الكثيرين وأدخل في المضمون الفكريّ بعض المفاهيم الّتي لا تلتقي بالضرورة بالمفهوم الإسلاميّ الأصيل، ولا تمتدّ إلى العنوان الكبير للقضيّة.


ويشارك مئات الآلاف في الاحتفالات في العراق ولبنان والبحرين وإيران وباكستان وأفغانستان والهند وكل البلاد التي يوجد فيها من أبناء المذهب الشيعي، بينما تشهد معظم مدن وسط وجنوب العراق بشكل خاص مراسم حاشدة للاحتفال بذكرى عاشوراء عند مراقد الأئمة وخاصة في كربلاء.


ويسلط هذا التحقيق الضوء على مفهوم التطرف والمغالاة بين البيئات الدينية المختلفة والتي تحول الخلاف التاريخي الى نزاع قد يؤدي الى احتقان مذهبي وطائفي في المجتمعات.


فما هو التطرف؟


هو مصطلح معاصر عند جميع دول العالم ويُقصد به "منتهى الغلو في العقيدة أو المذهب أو الفكر أو غيره"
ولعل أخطر ما في التطرف وفق العديد من الخبراء "أنه يقدم نفسه كخلاص من الإنحلال والضعف، ويستخدم الإرهاب كهدف أكثر منه كوسيلة والأخطر من ذلك، التيارات المتطرفة قديماً وحديثاً وغيرالمحصورة في قارة واحدة بالعالم ، ولا في بلد، ولا في دين، ولا في يمين، ولا في يسار."


ليس بجديد


يقول الكاتب والمحلل السياسي بشارة خير الله لـ"جسور" التطرف موجود من قديم الأزمنة ،عملياً على كل مسيحي أينما وجد التضامن مع ما جرى في السويد ويستنكر الاعتداء على المصحف الشريف وتأكيد مفهوم الاعتدال"
ووصف خير الله "العمل بالجبان " مشدداً على أهمية التوعية المكثفة"


ويرى خيرالله أن "المتطرف يكتسب تطرفه من البيئة التي عاش فيها ،ويجب مكافحة هذا التطرف على وجه السرعة لأنه خطير جداً على المجتمعات "
ويضيف "ما يشهده لبنان لا يبشر بالخير لجهة تعليم التطرف في بعض البرامج المدرسية وقد بلغ منعطفاً خطيراً لأنه صار عدوى و يطال قسماً كبيراً من اللبنانيين ."
ويعطي خير الله مثالا عن "الأم اللبنانية التي تنتمي الى بيئة لها وجود في مجلس النواب اللبناني والتي قالت ذات يوم " أربي ابني ليقدم نفسه شهيداً عندما يكبر"
ويختم حديثه ل"جسور" هذا النوع من التطرف خطير على لبنان وينتقل مع الأجيال لاحقاً "


في أوروبا


تجد بعض الدول الأوروبية نفسها عالقة في متاهة خطاب الكراهية والعنصرية والتشدد الديني بين الجماعات الإسلامية المتطرفة والجماعات اليمينية المتشددة وقد فشلت الحملات الأمنية لغاية الآن في تطويق خطر التطرف وإن كبحت إلى حدّ ما أنشطة خطيرة للطرفين. وتعيش أوروبا حالة من التشنج السياسي بفعل وضع عام ناجم عن الإضطرابات الجيوسياسية الناشئة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا والتي بدأت تكبر ككرة النار في كل أنحاء العالم وترسم صورة قاتمة لمستقبل العلاقات الدولية.


في الولايات المتحدة


يضرب التطرف اليميني الشديد أميركا كما أوروبا في مرحلة ما بعد الحداثة وينتشر تيار التطرف الديني في معظم دول العالم ، وليس فقط في العالم العربي والإسلامي ، فاليمين المتطرف في أميركا يقود موجة حملت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وأبقته زعيماً للحزب الجمهوري بعد خسارة الانتخابات الرئاسية.


في الشرق الأوسط


لم تكن المجتمعات في الشرق الأوسط حالة استثنائية فخلال السنوات الماضية عايشت المنطقة ظروفاً تشجع على التطرف، ليس فقط في صيغته الفردية، بل في صيغة جماعية أكثر خطورة، كما ارتبطت مرحلة التطرف المجتمعي الراهنة في المنطقة بعدد من الدلالات الرئيسية


علم الاجتماع


تصف الدكتورة أديبه حمدان، أستاذة العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية لـ"جسور" التطرف على أنه حالة من التحجر بالأفكار أو المواقف، ونوع من التمسك الأعمى بها مع الرفض للرأي الآخر الذي لا يعرفه ولا يعترف به ولا يريد التعرف عليه، ما يساهم في نشر المعلومات الخاطئة وغير الدقيقة وصولاً إلى الرفض المطلق والكره المطلق للآخر مثال الحالات التكفيرية التي تكفر الآخر، وقد تصل الى تشريع قتله هذا فيما يخص الدين".


وتضيف حمدان" في السياسة، لا يعترف المتطرف برأي سياسي آخر وتعم الديكتاتورية في النظام السياسي الأحادي ويغيب مفهوم الديمقراطية ويتم تهميش أصحاب الرأي الآخر وصولاً الى نفيهم أو حتى إعدامهم."


وتتابع حمدان " يغلب النظام السياسي على طابع الحياة اليومية وتصبح التنشئة الاجتماعية (أي البيت والمدرسة والإعلام) مبنية على الأحادية والتطرف، فلا رأي للمرأة بأبسط شؤون حياتها ولاحرية للشباب ولا للطفل ، ويصبح القمع سيد التربية وأساسها لينتج فيما بعد أفراداً متصلبين في آرائهم متمسكين بتقاليد ليس لديهم الجرأة على تغييرها أو المس بها"


المتطرف جاهل


وتصف حمدان " المتطرف بالإنسان الجاهل" وتوضح" يدفعه الجهل لإتخاذ مواقف حادة مبنية على الخوف من الآخر الذي لا يعرفه أصلاً" وتتابع " يمنع التطرف الإنسان من الحوار مع الآخر ويرفض التعايش معه"


وتشير حمدان في حديثها ل"جسور" بأن " التطرف واسع المجالات يطال اللون والجنس والدين والسياسة والثقافة ، وهو شكل من أشكال الفساد الأخلاقي الذي لا ينظر إلى الآخر كإنسان بل كعدو يريد أن يلغيه"


ووفق حمدان " ينحصر التطرف في لبنان بالحالة الطائفية لكون النظام السياسي السائد فيه طائفي ، بينما يكون التطرف في الولايات المتحدة مثلاً مبنياً على الهيئة واللون والعرق وغيرها من نماذج التطرف المبنية على التخلف والجهل ".


وتختم حمدان مشيرة إلى أن "مكافحة التطرف تكون بالتنمية الشاملة على الصعد السياسية الإجتماعية والتعليمية والإقتصادية من أجل رفع الوعي العام وتعميم ثقافة الإنفتاح والحوار بدل ثقافة الإلغاء".


كارثة على الإنسانية


يقول رئيس المؤسسة اللبنانية للإعلام والتنمية أحمد الأيوبي لـ"جسور" أن "كلُّ فكرة تنطلق من التمييز العنصري أو الديني أو الجغرافي تنتهي بكارثة على الإنسانية لأنّها تؤسِّس لنظرية الغلبة من فئة أو شعب على الآخر، وتعزِّز التطرّف بشكل متصاعد، ونماذجُها في التاريخ لا تُحصى، ولعلّ أخطرها نماذج ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وإسرائيل الصهيونية، وإيران الفارسية بطابعها المذهبي والعقائدي المبني على نظرية ولاية الفقيه وما يرافقها من استعلاء واستكبار تجاه الآخرين، وهذا ما حوّل المذهب الشيعي مع تقادم الزمن إلى مساحة تُلقى فيها الخرافات."


يضيف الأيوبي "تحتاج الفكرة العنصرية الاستعلائية إلى نشر الأساطير والخرافات وتضخيم الذات الحاكِمة لإحكام سيطرتها على الجماهير من خلال التربية على الطاعة العمياء للحاكم.


ويتابع "مثال على ذلك حال النظام الحاكم في إيران، الذي يطلق العنان لجماعات هامشية لنشر شطحات شديدة التطرّف والمغالاة يسهل التبرّؤ منها رسمياً، لكنها تتحوّل إلى مصدر هام لرفد السيطرة للنظام."


انفجار التطرف


ويتابع "هكذا يمكن أن نفهم انتشار مئات القنوات الفضائية المدعومة من إيران وظهور مئات المعمَّمين الذين ينطقون بروايات "فضائية" تستدعي المزيد من الغلوّ والتطّرف كما ظهر هذا العام في ذكرى إحياء استشهاد الإمام الحسين من أعاجيب إذا دلّت على شيء، فإنّها تدلُّ على "انفجار" التطرّف وانفلات العقال ، وهذا يفسِّر التوحش الذي ظهر ويظهر في الحروب المذهبية التي خاضتها الميليشيات الإيرانية في سوريا والعراق واليمن ، كما يفسر حالات قتل النفس والإنتحار نتيجة الإنحراف العقائدي كما هو حال جماعة القربان التي ظهرت في العراق ويبدو أن شظاياها إمتدت إلى لبنان."


ويستطرد الأيوبي "ما يحدث في بعض عواصم الغرب، تطرّف من نوع آخر، مبنيّ على إطلاق فكرة الحريّة بلا ضوابط واستبعاد العامل الأخلاقي والاجتماعي بل ومنعه وقمعه بإسم الحرية."

 ويوضح "هذا التطرّف ليس موجَّهاً ضدّ الأجانب، ومنهم المسلمين فقط، بل هو يستهدف أيضاً المجتمعات الغربية نفسها، من خلال فرض الشذوذ بأشكاله المختلفة على الجميع واضطهاد من يتمسك بالفطرة السليمة وجعل تفاصيل التحوّل الجنسي ملزِمة للأطفال في سنواتهم الأولى، بل وصلت هذه الهلوسات إلى حدّ بروز ظاهرة "الكلاب البشرية" والتي وصل أعداد معتنقيها في بريطانيا وحدها إلى عشرة آلاف "إنسان سابق" اعتقد أنّه يشعر أنّه كلب فقرّر أن يعيش عيشة الكلاب، فيرتدي لبوسها ويعيش في أماكن مخصّصة لها، وكذلك ظاهرة "الأغنام البشرية".


معاداة الأديان


يوضح الأيوبي فيقول " من إفرازات التطرّف اللاديني معاداة الأديان وهذا ما شهدته فرنسا والدنمارك والسويد بشكل خاص من خلال الرسوم المسيئة للنبي محمد وإحراق نسخ من القرآن الكريم، لكنّ من يتابع الوضع الاجتماعي للسويد والدنمارك بشكل خاص يجد أنّ الفراغ الوجداني هو أحد أسباب ارتفاع نسب الإنتحار رغم رغد العيش المتوفرِّ للشعب، وهذا ما سمح بظهور إفرازات متطرفة ضدّ الأجانب تستدعي النازية والفاشية بأشكال حديثة."


القلق على الهوية


ويقول الشيخ عباس الجعفري لـ"جسور" الحديث عن التطرف في المنطقة العربية مرده الى وجود صراع هويات مضطربة ومتنوعة وقلقلة تحاول إثبات ذاتها من خلال ما تحمله من أفكار تقليدية. 


ويرى رجل الدين الشيعي اللبناني أن " التطرف حالة نفسية فردية وحالة مجتمعية في آن ، فإذا كان الأفراد ينحون الى التطرف فردياً فمرد ذلك إلى البعد النفسي من خلال إثبات الذات، وهذا ما نشهده اليوم على مستوى الطائفة الشيعية حيث نجد أن هناك زيادة في استثمار واقعة كربلاء لتزخيم هذه الهوية القلقة التي يراد لأتباعها أن يكونوا أكثر التصاقاً ببعضهم البعض تخويفاً من الآخر أو من الهوية الأخرى سواء كانت محلية أو من خارج أو من داخل الديانة الواحدة"


ويضيف الجعفري "الذهاب نحو التطرف هو حالة المجتمعات غير المستقرة التي لم تنتج هوية عصرية لها انما تحاول العودة دائما ًالى الماضي"
ويرى أن "هناك أحداث تغذي التطرفاً كما في حالة اللاجئ العراقي الى السويد الذي أثار حفيظة المسلمين من خلال إحراقه للقرآن الكريم"
ويعتبر الشيخ الجعفري أن " إحراق المصحف تحدٍ ربما يكون ناتجاً عن قلقله على هويته أو خوفه من الهوية الإسلامية فقام بما قام به"
ويلفت "وإن استفاد هذا اللاجئ من قانون السويد الذي يحمي الحريات الاً ان السويد لم تستطع ان تحمي الإعتداء على كرامات فريق كبير من العالم الإسلامي" وأن التطرف هو نتيجة للواقع المأزوم للهوية في منطقتنا العربية والذهاب نحو التطرف سببه القلق على الهوية والوجود.