الحاجة إلى إستراتيجية مصرية للتعامل مع الأزمة السودانية

مصر ليست على هامش ما يجري في السودان، وهي تتابع تفاصيله أولا بأول، لكن مشكلتها الرئيسية تكمن في الحذر خاصة في ظل اتهامات مسبقة لها بالوقوف إلى جانب قائد الجيش عبدالفتاح البرهان. وهو ما يدعو القاهرة إلى كسر المحاذير ومصارحة مختلف القوى السودانية بالمقاربة المصرية والاستماع إلى مخاوفها كخطوة أولى نحو التأثير.

حسابات إدارة التوازن تبطئ التحركات المصرية

القاهرة

وضع استمرار الحرب في السودان الكثير من القوى الإقليمية والدولية أمام تحديات كبيرة، حيث عجزت المبادرات التي قدمت والتحركات التي قامت بها جهات مختلفة عن تثبيت وقف إطلاق النار وتوفير درجة من الهدوء تقلل من الخسائر البشرية اليومية، وتفتح الباب لاستئناف الحديث عن عملية سياسية تقود إلى إنهاء الأزمة الحالية.

وتعد مصر في مقدمة الدول الأكثر تأثرا من تداعيات الحرب بين قوات الجيش والدعم السريع، وأشدها قلقا من المصير القاتم الذي ينتظر البلاد، ولذلك لم يعد ترقبها أو حذرها مجديان وعليها أن تبادر بتقديم رؤية واضحة تنطوي على أبعاد إستراتيجية تجنبها النتائج السلبية المصاحبة للحرب، وتقيها شرور الانعكاسات على قضايا إقليمية تمثل بعدا مهما لها، لا تقتصر على ما يحمله خروج السودان من معادلة سد النهضة الإثيوبي، إذ يمتد الأمر إلى أمن الحدود البرية والممرات البحرية.

وراجت معلومات مؤخرا حول تطلع إيران للعودة إلى السودان من خلال تطوير علاقاتها مع قيادته العسكرية وتقديم أسلحة للجيش مقابل حصول طهران على مزايا لوجستية في منطقة شرق السودان المطلة على البحر الأحمر، وهو ما يعني تحديا جديدا للقاهرة في هذه المنطقة، ولن تنتظر حتى يتضخم أو تظهر في السودان ميليشيا حوثية أو نموذج جديد لحزب الله في خاصرتها الجنوبية.

ويمكن القول إن الحكومة المصرية تملك معلومات تفصيلية حول ما يجري في السودان، لكنها لم تبلورها في رؤية تساعدها على الحركة بديناميكية وتحقيق أهدافها الحيوية. وأصبحت القاهرة الآن منفتحة على غالبية القوى المدنية، بما فيها المجلس المركزي بقوى الحرية والتغيير الذي لم يكن مرتاحا للذهاب إلى القاهرة قبل الحرب وحضور اجتماع مشترك مع الكتلة الديمقراطية، لكن بعدها جاء المجلس المركزي وعقد اجتماعا وأغدق في الإشادة بالحكومة المصرية وما توفره من دعم للسودان وأبنائه.

وتذكّر مشاهد التعامل المصري مع السودان بتلك التي سادت مع ليبيا، حيث امتلكت القاهرة فائضا من المعلومات ودراية كاملة بالتحركات المتشعبة لما يجري على الأرض وخارطة للتوازنات الداخلية والخارجية والأطراف الفاعلة وعلاقات مباشرة مع معظمها، بما فيها قوى لم ترتح لتوجهاتها، لكن كل ذلك لم يمكّنها من طرح خطة إستراتيجية في ليبيا تعمل على تنفيذها دون انتظار مساعدات أو مبادرات من أحد.

وتكرر القاهرة الموقف نفسه مع السودان، وتبدو حركتها بطيئة ورهينة تشابكات مختلفة، بينما باستطاعتها أن تصبح قائدة في هذه الأزمة، لأنها الدولة الأكثر حكمة ورشادة وحرصا على وحدة السودان وأمنه واستقراره.

وكل الشكوك التي بثتها دوائر سودانية مسيّسة وتخدم جهات معينة، تعاملت معها القاهرة باهتمام زائد عن الحد كبّل حركتها ومنعها من السعي لتبني رؤية محكمة وتنفيذها، فلا زال هناك سودانيون يعتقدون أن القاهرة يجب أن تقوم بدور رئيسي لوقف الحرب، وعليها أن تهمل الأصوات الرافضة لحضورها.

ولعبت التقارير التي أشارت إلى تأييد مصر للجيش السوداني دور فاعل في خفض مستوى الثقة في أيّ تحرك تقوم به القاهرة، غير أن تطورات الحرب وآليات التعاطي مع روافدها أكدت أن مصر لديها قنوات اتصال جيدة مع جميع الأطراف السودانية.

ومن مصلحة القاهرة الاستفادة من دروس ليبيا، حيث أدى الحذر، والحيرة أحيانا، إلى تغلغل قوى إقليمية مثل تركيا، وقيامها بالقبض على مفاتيح عديدة ساعدتها على التحكم في بعض المسارات، وتكرار القاهرة لهذه السياسة مع السودان يقود إلى نتيجة شبيهة، أي دخول قوى إقليمية أفريقية أو عربية والتموضع في السودان عسكريا وسياسيا بما يجعلها تتحوّل إلى رقم صعب في أيّ معادلة يمكن أن تصل إليها البلاد.

وتملك مصر الكثير من الخيوط القوية التي تمكّنها من القيام بدور معتبر إذا أحسنت توظيف علاقاتها المتعددة مع الأطراف السودانية وتوظيف فهمها الدقيق للواقع الاجتماعي وتقديم مبادرة شاملة للحل، سيتوافر لها مؤيدون يساعدون على تمريرها في الشارع وبين نخب بدأ بعضهما يدرك مدى الخطورة التي أفضى إليها الانسداد السياسي في السودان على مدار السنوات الماضية.

وبات وضع ورقة مصرية عملية مُلحة، ترسم من خلالها الأولويات السياسية في المرحلة المقبلة وتزيل بها ما علق في أذهان السودانيين من شكوك متزايدة حول دعم القاهرة للأنظمة العسكرية، وهو انطباع تسبب في التقليل من أهمية أيّ جهود مصرية. ومن المهم توضيح أبعاد التأييد وما ينطوي عليه من أهداف ليست ضد السودان، بل جاءت من رحم دور الجيوش في الحفاظ على وحدة الدول واستقرارها، وليس قدرا مكتوبا أو أنها تحمل شيكا على بياض، فكم من القادة العسكريين تسببوا في ويلات لبلدانهم؟

تنطلق الرؤية المصرية المتخّيلة من ترسيم الحدود الفاصلة بين المدني والعسكري، وطمأنة القوى السودانية والغربية الطامحة إلى تحول ديمقراطي، وإزالة ما علق من هواجس ومعلومات مبتورة نحو أيّ مقاربة مصرية حيال السودان، وهذا ليس تدخلا، بل دفاعا عن المصالح، وتقول القاهرة في النهاية هذا موقفنا، فماذا أنتم فاعلون؟

من هنا تستطيع الأطراف السودانية الكشف عمّا بداخلها من أفكار وتوجهات قد تسهم في تقريب المسافات بين مصر والقوى النشطة في البلاد، سياسية وعسكرية، فلم يعد الوقت يحتمل تراشقات خفية أو مماطلات، فالسودان دولة في غاية الأهمية لمصر، وبعد انزلاقه في أتون حرب لا أحد يعلم المدى الذي يمكن أن تذهب إليه، أصبح الموقف في حاجة إلى اهتمام سريع ومباشر من القاهرة.

وتسهم إحاطة الأطراف السودانية بالورقة المصرية في تذويب الهوة وتخطي المخاوف التقليدية ووضع حد للكثير من المعلومات غير الدقيقة التي روّج لها البعض وتحولت إلى جزء أساسي في تكوين الوجدان السوداني، فمع أن مصر في مقدمة الدول التي تستقبل مواطنين سودانيين منذ سنوات، إلا أن الصورة الذهنية عنها غير مريحة.

وجاءت هذه الصورة المشوهة من حملات تحريض تقوم بها قوى إسلامية لأهداف سياسية ترمي لفصم أيّ علاقة بين القاهرة والخرطوم، ومن قوى أفريقية تريد جذب السودان إلى الجنوب وتمتين وجهه الأفريقي على حساب العربي الذي تمثله مصر.

وضاعف الاستسلام لما جرى ترسيمه من صور نمطية من العقبات أمام القاهرة، والتي لم تبذل مجهودا كبيرا لتجاوزها على مدار سنوات ماضية، وتغذّت الصور السلبية من انكفاء مصري وعداوات مفتعلة، فكانت الحصيلة أن بدت القاهرة كأنها بعيدة عن السودان مع أنها أول مكان يقصده مواطنوه عندما يضيق بهم الحال.

تتطلّب العلاقة مع السودان ثورة تصحيح بالمفهوم السياسي، ووضع إستراتيجية مصرية يتم العمل بها مبكرا، وعلى هديها يمكن طرح مبادرة أو مقاربة تسهم في سد الثغرات والفجوات التي حوتها مقاربات أو مبادرات جاءت من دول أخرى، قبل أن ينزلق السودان إلى مربع يصعب إخراجه منه.