ترجمات..
بين الحيتان والأسماك.. الفساد أقوى من العراق!

"أرشيفية"
في السلطة والدولة الرشيدة أو القريبةُ من الرُشد، لا يُعول على لغة الإنشاء والشعارات والعواطف، بل على لغة الأرقام والحقائق والنتائج والمخرجات.
مع حكومة مصطفى الكاظمي لغة الأرقام والحقائق والنتائج والمخرجات كانت موجودة بالفعل، وتقول إن الكاظمي قد سلم سلطة لخلفه محمد شياع السوداني مع علاقات خارجية ممتازة وانفتاح دولي كبير واحتياطي نقدي تجاوز 100 مليار دولار ومعه 130 طن من الذهب و سندات الخزانة الاميركية تقارب 40 مليار دولار، وهذا الانجاز فعلياً لم يحدث في جميع حكومات العراق بعد عام 1979 على أقل تقدير!
حقائق عن سرقة القرن
بعد استقالة وزير المالية السابق علي عبد الامير علاوي، ورسالته الشهيرة لرئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، والتي كانت أحد "فصول الكتاب المجهول" الذي يجب أن يقرأه العراقيون ذات يوم ، وهو كتاب كشف الفساد الاداري والمالي في العراق، كشف علاوي في هذه الرسالة عن حقيقة صعبة وهي أن الفساد في العراق مؤسساتي والكتل السياسية الحاكمة لا تسمح بوجود إصلاح حقيقي، وبهذا كان عاجزاً عن تقديم شيء غير الذي قدمه في شهور استيزارهِ كوزيراً للمالية !
بعد ذلك، أي بعد استقالة علاوي، تم تكليف احسان عبد الجبار وزير النفط آنذاك ليكون وزيرًا للمالية ايضاً. بعد استلامه المنصب كانت إحدى مهماته التحقيق في قضية سرقة الأمانات الضريبية والمعروفة بسرقة القرن، والتي كانت تعلم بها الحكومة السابقة وأشعرت هيئة النزاهة بكتب رسمية عدة بضرورة أن تقوم بإجراء تحقيق في الأمانات الضريبية لكشف الحقيقة .
استمد احسان قوته في التحقيق في هذه القضية عبر فسح المجال له من قبل رئيس الحكومة السابقة، ليتبين لديه ان مبلغ السرقات الحقيقي ليس مليارات من الدنانير كما اشعرته الحكومة بذلك فبعد التحقيق و التدقيق تبين ان المبلغ قرابة 4 تريليون دينار، ليتوجه لرئيس الوزراء آنذاك بهذه الحقيقة، و يبلغه بأن القضية أعمق بكثير.
كانت الحكومة السابقة داعمة لاستكمال التحقيق بإشراف احسان عبد الجبار، وكشفت التحقيقات بعد حين، عن أن سرقة القرن لها ارتباطات مع جهات سياسية ورؤوس كبار، ونتيجةً لذلك تعرض عبد الجبار لتهديد وترغيب من أجل غلق الملف نهائياً ، ما اضطره الى الخروج في الإعلام العراقي وكشف بعض تفاصيل القضية والتي كانت غير معروفة للرأي العام، لتقوم الحكومة السابقة في النهاية بإلقاء القبض على المتهم الأول وهو نور زهير قبل دقائق من مغادرته العراق في طائرة خاصة .
بعد أيام من انتهاء حكومة الكاظمي، قامت الحكومة الحالية تحديداً في نهاية شهر تشرين الثاني من العام الماضي، بإطلاق سراح نور زهير المتهم الاول في هذه القضية، ( على أمل إعادة نور الى السجن جزاءاً لسرقته، و كذلك عودة جميع الاموال لخزانة الدولة ) و قد أثار هذا القرار جدلاً واسعاً في تلك الفترة ولغاية يومنا هذا بعد مرور قرابة عام من إطلاق سراحه، حيث لم تعد الأموال، عدا بضع مليارات قليلة ولم يعود نور زهير الى سجنه، حتى ان رئيس هيئة النزاهة الاسبق، القاضي رحيم العكيلي، قال في حديثٍ إعلامي في وقتها بعد إطلاق سراح نور زهير :
" إن قرار اطلاق سراح المتهم الرئيسي بسرقة القرن نور زهير، بكفالة مالية يعد سابقة خطيرة في تاريخ القضاء العراقي ، إذ لا يمكن إطلاق سراح متهم بسرقة اي مبلغ، سواء كان بسيطا أو ضخمًا من أموال الدولة، بل يجب إيداعه التوقيف حتى يحين موعد محاكمته، خصوصاً وان جميع الادلة ثابتة على قيامه بالجريمة." و اضاف العكيلي : " إذا قام مواطن اعتيادي بتحرير صك بمبلغ 50 مليون دينار عراقي لشخص آخر في موضوع لا يتعلق باموال الحكومة ولم يتم صرفه فالقضاء العراقي سيحكم بحجزه في التوقيف حتى يسدد كامل المبلغ ومن ثم تتم محاكمته ولن يطلق سراحه الا اذا سدد كامل المبلغ، فكيف الحال مع متهم اعترف بسرقة مبلغ ضخم من اموال الدولة مثل نور زهير".
المفارقة الأخرى مع إطلاق سراح نور زهير، هو توجيه الاتهام من قِبل الحكومة الحالية ضد من كشف سرقة القرن والمتهمين فيها، حيث تم توجيه الاتهامات بشكلٍ مباشر ضد وزير المالية السابق علي علاوي ووزير المالية وكالةً احسان عبد الجبار. بالتزامن مع عدم استطاعة توجيه اتهام مباشر لرئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي رغم توجيه الماكنة الاعلامية الحزبية ضده، هذه الماكنة الاعلامية التي تستطيع قلب الحقائق في العراق رأساً على عقب، وهذا ما يفسر تمويلها بمليارات الدولارات سنوياً من المال العام من أجل غسل الادمغة و أدلجة المجتمع !
محاربة الفساد
يرى مراقبون أن الحكومة السابقة لم تكن قادرة على مكافحة حيتان الفساد الكبيرة، وذلك بسبب وضعها السياسي الضعيف وعدم وجود تأييد برلماني لها ولهذا اتجهت لاصطياد أسماك الفساد الكبيرة، كما صرح المحلل السياسي علي الربيعي في حديثٍ خاص لـ "جسور" قائلاً :
" انتهجت الحكومة السابقة مبدأ اصطياد اسماك الفساد الكبيرة كون المساس بحيتان الفساد الكبيرة مجرد عبث نسبةً لوضع الحكومة السابقة مقابل وضع هذه الحيتان في القرار السياسي"
ويضيف الربيعي: " ان الحكومة السابقة كشفت عن ملفات فساد تقدر بأكثر من 15 مليار دولار، في ملف الامانات الضريبية و ملف كي كارد و ملف الرواتب التقاعدية، واستردت بعض الأموال من هذه السرقات وتم الحكم قضائيًا على المتهمين فيها، قبل إطلاق سراحهم بعد تشكيل الحكومة الجديدة أو تخفيض مدة محكوميتهم بعد اعادة المحاكمة من جديد و بالنتيجة خروجهم من السجن"
و استطرد الربيعي قائلاً :" ان الحكومة الحالية تعتمد على اصطياد الأسماك الصغيرة في قصة محاربة الفساد، مدير فاسد هنا، موظف فاسد هناك، ولا يشكل كشف هذه الملفات شيئاً أمام ما كُشف سابقاً في الحكومة السابقة (و ان كان ذلك جيداً رغم انه يُعتبر من النزر اليسير)، وإن كان كذلك ايضاً لأجندات سياسية لضرب خصوم سياسيين".
و ختم حديثه قائلاً : " ان استنساخ تجربة لجنة ابو رغيف في الحكومة الحالية بعد تغيير الأسماء و التنكيل بالفريق ابو رغيف، يعني أن التجربة كانت ناجحة و مرغوبة شعبياً، بيدْ ان اللجنة الحالية لم تكشف اي ملف فساد يوازي ما كشفته لجنة ابو رغيف إبان فترة الحكومة السابقة