فاغنر: هزيمة بعيدة عن الميدان

"أرشيفية"

موسكو

تحطمت الطائرة التي كان يستقلها مؤسس شركة فاغنر، يفغيني بريغوجين، في منطقة تفير شمال العاصمة الروسية. وكان برفقته الجنرال ديمتري أوتكين، الملقب بالشايب، والذي كان قائد الفرقة 777 والقائد الميداني لشركة فاغنر. وقد لقي عشرة أشخاص حتفهم في هذا الحادث، بما في ذلك ثلاثة من أفراد الطاقم.

ينتظر الجميع نتائج التحقيق النهائي لمعرفة خلفيات حادثة تحطم الطائرة المؤسف. ومن الممكن أن يكون السبب وراء ذلك، انفجار في الجزء الخلفي من الطائرة. وقد يتضح من التقرير النهائي أن الحادثة قد حصلت نتيجة لجريمة إهمال من قبل الطيارين أو الأشخاص المعنيين بإعداد الطائرة للإقلاع.

موت مرابي 

توفي يفغيني بريغوجين في 23 أغسطس/آب الحالي في روسيا. هو الذي وُلد عام 1961 في مدينة سانت بطرسبورغ، واشتهر بلقب "طباخ الكرملين" لاقترابه من السلطة في الكرملين وصقورها.

لم يتمكن قائد فاغنر من استكمال مهمته في الخارج، تحديدًا في إفريقيا، حيث كان يعتزم رفع صورة روسيا من جديد في النظام العالمي. في الآونة الأخيرة، كان بريغوجين يتنقل بين مدينتي سانت بطرسبورغ ومينسك، في انتظار فرصة آمنة للخروج من نطاق حصاره.

انتهت حياة قائد فاغنر في حادثة جوية غامضة ومثيرة للشكوك. وتشير المعلومات إلى أن فريقًا من أقرب شركائه ومعاونيه رافقوه على متن الطائرة. تمت هذه الرحلة بعد عودتهم إلى روسيا من رحلة إلى إفريقيا. انطلقوا من مطار شيريميتيفو إلى سانت بطرسبورغ على متن طائرتين من طراز إمبراير ليجاسي 600. كان بريغوجين قد اقتنى هذه الطائرات قبل عامين.

الموقف الرسمي من الحادثة

تأخر الكرملين كثيرًا عن اعلان الوفاة، وقد يكون ذلك مقصودًا بهدف امتصاص صدمة الناس من فقدان القائد الروحي لمؤسسة فاغنر، بريغوجين، بجانب القائد العسكري الحقيقي للشركة، ديمتري أوتكين.

تميل تحليلات الخبراء إلى اعتبار أن الحادثة لم تكن نتيجة لخلل في الطائرة أو أخطاء من قبل الطيارين الذين كانوا يقودونها. بل يشتبه بأن هناك انفجارًا وقع على متن الطائرة وهو الذي أدى إلى وقوع هذه الكارثة. ويتجلى ذلك في تدمير طائرة رجال الأعمال في الجو، حيث تم العثور على قسم الذيل بعيدًا عن موقع تحطم هيكل الطائرة. وتظهر على أجزاء الحطام، بما في ذلك الجناح، ثقوب عديدة.

خلافات الأجنحة في روسيا

ذكر ديمتري أوتكين قبل عام من الحادثة، وبعد سلسلة من الصراعات الجادة بين شركة فاغنر ووزارة الدفاع، أن "نحن في وضع لا نعرف فيه ما إذا كنا سنخرج أم لا". ووفقًا له، سعى الجيش منذ فترة طويلة إلى نقل الشركات العسكرية الخاصة الخاضعة لسيطرته، على سبيل المثال، من خلال دمج الشركة مع الهياكل الخاصة التي كانت بالفعل تابعة لوزارة الدفاع. وتصاعد الوضع خلال العملية الخاصة، عندما أصبح "فاغنر" في الواقع جيشًا خاصًا يمكن استدعاء أي متخصص إلى صفوفه للحصول على مكافأة لائقة. وشكلوا مجموعات هجومية على حساب السجناء الذين حصلوا على عفو.

إذا، عند تأسيسها في عام 2013، كانت "فاغنر" تضم ما بين 30 إلى 40 عضوًا في قيادتها. شارك هؤلاء القادة في النضال على مدار الفترة حتى وصلت المنظمة إلى 60 ألف "متطوع". لم يكن هؤلاء المتطوعون مجرد حاملين للسلاح الخفيف، بل تضمنوا حتى استخدام المعدات الثقيلة مثل الدبابات والطائرات المقاتلة. وعلى الرغم من ذلك، وفقًا ليفغيني بريغوجين، كان لديهم نقص حاد في الذخيرة، وتحديدًا في قذائف المدفعية، التي كان من المفترض أن يزوّدهم بها الجيش.

أصبح الصراع مع وزارة الدفاع هو السبب وراء "مسيرة العدالة" لطابور فاغنر PMC إلى موسكو في 23-24 يونيو /حزيران من هذا العام. حيث توقعوا خلالها استقالة وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف.  كما احتلت قوات فاغنر مدينة روستوف على نهر الدون ومقر المنطقة العسكرية الجنوبية، وغرفة العمليات الخاصة بأوكرانيا، ولم تكن العاصمة في جهوزية كاملة للتصدي للمجموعة.

لوكاشينكو الوسيط

يروي ألكسندر لوكاشينكو كيف تولى قيادة عملية الدفاع عن موسكو من يفغيني برغوجين في يوم التهديد بالوصول إلى موسكو. تم في ذلك اليوم إرسال 1500 مظلي من القاعدة العسكرية الخاصة في فيتبسك إلى موسكو لحمايتها، في ظل تصاعد التوتر واحتمال هروب بوتين من المدينة.

بعد مفاوضات مع يفغيني بريغوجين، تمكّن الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو من إقناعه بالعودة إلى قواعده في مدينة روستوف. وبعد ذلك، بدأت الانهيارات في الشركة العسكرية الخاصة فعليًا، وقرر بعض المقاتلين الانتقال إلى بيلاروسيا لتقديم تدريب للقوات المسلحة البيلاروسية. أما الباقون، فانضم معظمهم إلى هياكل وزارة الدفاع الروسية.

أنهى جهاز الأمن الفيدرالي قضية التمرد الجنائية وفقًا للمادة 279 من القانون الجنائي للاتحاد الروسي  المرفوعة ضد  الشركة (فاغنر ) وزعيمها. ومع ذلك، ما زال الجهاز اللوجستي يواصل التحقيق في الأحداث المتعلقة بالمسيرة، ويبدو أن هناك تركيزًا على توضيح ملابسات تدمير المعدات المختلفة خلال الحملة، بما في ذلك الأحداث المتعلقة بالطيران والوفيات التي وقعت خلال هذا السياق. وبناءً عليه، اعتقل بعض المقاتلين من الشركة العسكرية الخاصة للتحقيق في هذه القضايا.

تمكنت الدولة من مصادرة الأموال والمعدات وفرض قيود على أفراد الشركة ووسائل إعلامها، مما أدى إلى تقييد نشاطها. وصار الفريق محاصرًا بفعل هذه الإجراءات من قبل الدولة. على الرغم من ذلك، ظهر بريغوجين في مؤتمر القمة الإفريقية إلى جانب الرؤساء الذين يسعون للحصول على دعم من روسيا في شؤون مالية ولوجستية واستخباراتية وعسكرية، بهدف التحرر من الاستعمار الفرنسي.

شارك قائد فاغنر في اجتماع لقادة الشركات العسكرية الخاصة مع الرئيس فلاديمير بوتين وسافر إلى موسكو وسانت بطرسبرغ ومينسك ومدن أخرى في رحلات عمل، مستخدمًا نفس الطائرة . ولابد من الإشارة إلى رفض جميع الفصائل الروسية في مجلس الدوما التعليق على الحادثة قبل الاطلاع على تقرير التحقيق بشأن عملية التفجير.

الاتهام السياسي للكرملين

من الواضح أن هناك عدة نقاط تتعلق ببريغوجين والأحداث المحيطة به. هُزمت وحدته العسكرية في باخموت وخرج منها في 10 مايو 2023. في البداية، حمَّل وزارة الدفاع مسؤولية هذا الانسحاب. ولكن بعد الانقلاب، أعلن الرئيس الروسي عن ضرورة إنهاء حالة فاغنر، معنويًا وماليًا.

لذا، انتظر الرئيس بوتين مدة شهرين من أجل إنهاء وضعية بريغوجين واستعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي، نظرًا لما كان يحتفظ به كقائد عسكري مقرّب من الكرملين في "صندوقه الأسود" من معلومات أو أسرار. وقد أخطأت روسيا في تغلغل فاغنر إلى في جميع أنحاء العالم، وأصبحت إمبراطوريتها المالية تفوق حجم الاقتصاد الروسي نفسه. تدير فاغنر حوالي 160 شركة في الخارج، وبالتالي يسعى بوتين لاستعادة السيطرة على هذه الهياكل، والأعضاء والقادة.

ما  وراء القتل

لذلك، يظهر تسارع الأحداث بوضوح في عملية الاتهام السياسي، وهو ما يخدم مصالح الكرملين والرئيس بوتين بشكل شخصي لإنهاء فاغنر وقيادتها. يمكن تلخيص هذه الأحداث كما يلي:

في 17 أغسطس الحالي، أجرى الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو مقابلة تلفزيونية حيث أبدى استياءه من وجود فاغنر في بلاده. لم يتم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين بشأن الاستضافة الدائمة، مما جعل فاغنر وقيادته عبءً فعليًا على بيلاروسيا.

بيلاروسيا تسعى لفتح حوار مع بولندا بعد التصاعد الأخير بين البلدين، والذي أدى وجود فاغنر على الحدود إلى تصاعد التوتر في العلاقات بينهما.

في 20 أغسطس الحالي، تلقى بوتين تقريرًا من وزارة الأمن يشير إلى ضرورة تغيير وزير الدفاع وقائد الأركان نتيجة الخسائر التي تكبدتها روسيا بسبب الهجوم الأوكراني الأخير، وخاصة فيما يتعلق بتوازن الرعب الذي أثرته معادلة الصراع بين كييف وموسكو، والتي تضمنت استهداف العاصمة بالمسيرات. تنفيذ مطالب التقرير يشير إلى إذعان بوتين لمطالب بريغوجين في يوم الانقلاب.

إعلان وزارة الدفاع في 23 أغسطس الحالي بشأن تغيير قائد القوات الجوية الجنرال سروفيكين الجزار، وهو حليف مزعوم لفاغنر، يظهر احتمالية تورط بعض الشخصيات المرتبطة بفاغنر في الأحداث الأخيرة. بل يُقال أنه كان متماهيًا مع بريغوجين وكان على دراية تامة بالانقلاب، والذي لم يظهر للإعلام منذ يوم الانقلاب.

كل هذه الأدلة تشير إلى احتمال تورط بوتين في الأحداث. وقد اتُهم في السابق بتنفيذ اغتيالات داخلية وخارجية ضد الحلفاء والمعارضين لسياسته وتوجهاته. وهو من صرح في السابق بعبارة "لقد طعنت بظهري"، وذلك بعد أن انتقده بريغوجين بطرق مختلفة، وأسماه "الختيار" وهدده باحتلال العاصمة موسكو... الأمر الذي دفع بوتين التوسط من خلال الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو للتوصل إلى تسوية قادت لخروج جزء من فاغنر إلى معسكرات في بيلاروسيا وتأمين وصولهم إلى أفريقيا.

منذ حدوث الانقلاب في روسيا، أصبحت الخلافات واضحة داخل المؤسسة العسكرية. وبدأت تظهر علامات التململ داخلها إلى حدٍ يجعل من الممكن تسهيل مرور قوات فاغنر من روستوف على الدون باتجاه موسكو من قبل وحدات عسكرية روسية دون أن تعترضها.

جاء الحساب، وخُتمت الرسالة أو رُفعت العصا بوجه التمرّد.

وهنا ياتي السؤال: من التالي على اللائحة، لكن لابد من القول بأن بوتين التزم المؤسسة العسكرية وسوف ينهي العصابات في داخل الدولة حيث كان يوجد جيش بريغوجين الأول.

وفي الوقت الحاضر، نجد أن لدينا الجيش القاديروف الثاني، الذي لم تعد وزارة الدفاع تديره بشكل مباشر، بل كان بوتين نفسه يأمر بهم بشكل شخصي من خلال جنرال من وزارة الدفاع يقوم بتنسيق التفاعل بينهما، تمامًا كما كان الوضع مع جزار سوريا سوروفيكين. ولاحظنا أيضًا رغبة بوتين في إجراء تغييرات في القيادة العسكرية التي لا تتفق مع رؤيته، وهذا يجعل التصفية الجسدية والروحية أمرًا ضروريًا من أجل التحول والاستعداد للمرحلة القادمة، التي ستشمل الانتخابات المقبلة.