ترجمات..
المنقوش .. "كبش فداء" بين ليبيا وإسرائيل

"أرشيفية"
قبل أسبوع، ضجّت المنطقة وليبيا بخبر تم تسريبه حول لقاء جمع وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين بنظيرته الليبية نجلاء المنقوش. في الإثر، اندلعت تظاهرات في طرابلس وتحوّلت إلى أعمال عنف وحرائق تستنكر هذا اللقاء وتصوّب على الحكومة المنتهية ولايتها ورئيسها عبدالحميد الدبيبة. تنصّل الأخير من مسؤوليته ورمى بالمنقوش وكأنها "اتخذت" قرار لقاء بهذا المستوى من تلقاء نفسها بدون علمه أو ترتيب منه.
تم هذا الاجتماع بوساطة إيطالية ووصفه الوزير الاسرائيلي بـ"التاريخي" وبأنه خطوة أولى في العلاقات بين البلدين. إسرائيل فصّلت اللقاء بالمنقوش وأكدت انه تناول سبل التعاون للحفاظ على تراث اليهود الليبيين وتجديد المعابد والمقابر اليهودية في البلاد، بالاضافة إلى المساعدات الإسرائيلية في القضايا الإنسانية والزراعة وإدارة المياه في ليبيا. سارعت المنقوش بنفي هذه التصريحات على الفور مؤكدة أن اللقاء "كان عابرا وغير رسمي ولم يكن معدا له مسبقا وانها ترفض التطبيع مع إسرائيل". بعدها، توالت ردود الفعل الداخلية.
بداية بإعلان رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة إيقاف المنقوش عن العمل وإحالتها إلى التحقيق، وإلى دعوة مجلس النواب لعقد جلسة طارئة فيما حمّل المجلس الاعلى للدولة المسوؤلية الاخلاقية والقانونية والتاريخية لكل من قام بهذا العمل أو شارك فيه. وتنص المادة 7 من القانون الليبي على الحبس لمدة لا تقل عن 3 سنوات وغرامة لكل من يعقد اتفاقا مع أي نوع من هيئات أو أشخاص مقيمين في إسرائيل أو منتمين إليها أو يعملون لحسابها.
في الإثر، خيمت حالة من الغضب الشعبي على المشهد أيضا حيث خرجت تظاهرات ليلية طالبت باسقاط حكومة الدبيبة كما طالب المجلس الرئاسي حكومة الدبيبة بتقديم تفسيرات حول هذا اللقاء.
بحسب مراقبين فإن خطوة المنقوش هذه جاءت كبداية للتطبيع الليبي مع اسرائيل بوساطة تركية وبالتنسيق مع إيطاليا، لا سيما أن الدولتين لديهما مصالح في الغرب الليبي ومع الدبيبة تحديدا الذي مكنّهما من عدة اتفاقيات في مجال النفط والغاز.
لكنّ الدبيبة، وفي محاولة لاستيعاب تداعيات تسريب اللقاء، قرر إقالة المنقوش. اختار أن يقوم بذلك خلال زيارة أجراها الدبيبة لسفارة فلسطين بطرابلس. وقال الدبيبة خلال لقائه السفير الفلسطيني لدى ليبيا محمد رحال إن "ما قامت به المنقوش لا يمثل موقف الحكومة والشعب".
هل كان الدبيبة على علم بلقاء المنقوش – كوهين؟
لا يبدو أن رواية الدبيبة عن عدم علمه بلقاء المنقوش - كوهين ستظل صامدة في وجه روايات كثيرة تؤكد أنه كان على دراية مسبقة باللقاء، وأنه كان من تدبيره.
من بين تلك الروايات، ما قالته أسوشيتد برس، إذ أكدت أن الدبيبة كان على علم بلقاء روما وأن مكتبه رتّب اللقاء وأنه أعطى الضوء الأخضر للمنقوش الشهر الماضي. هذه المعطيات، أكدها أيضا موقع واي نت العبري، وقال إن اللقاء الأخير جرى تنسيقه على أعلى المستويات وجرى الاتفاق مسبقا على الكشف عنه. وكشف الموقع الإسرائيلي أن اللقاء الذي دام نحو ساعتين لم يكن صدفة وأنه جرى في دار ضيافة رسمية تابعة لوزارة الخارجية الإيطالية. وفي هذا الاتجاه، قالت جريدة "لا ريبوبليكا" الإيطالية، إن اللقاء الذي انعقد يوم 23 أغسطس بروما جرى وجها لوجه بين المنقوش وكوهين. أما رواية الإذاعة الإسرائيلية، فتشير إلى أن لقاء روما ليس الأول بين المسؤوليين الليبيين والإسرائيليين فقد سبقته محادثات في الأشهر الأخيرة
وقالت الإذاعة الإسرائيلية إن محور اللقاء الأخير والمحادثات السابقة دار حول "مسألة التطبيع". يتقاطع ذلك مع رواية أسوشيتد برس، التي أكدت أنّ ملف التطبيع نوقش لأول مرة في اجتماع بين الدبيبة ومدير الـ"سي أي إي" وليام بيرنز في يناير الماضي. يومها، لم يعترض الدبيبة على "التطبيع" وأعطى موافقته المبدئية على انضمام ليبيا إلى اتفاقيات إبراهيم، لكنه كان قلقا بشأن رد الفعل الشعبي. فهل جسّ نبض الشارع مجددا من خلال التضحية بالمنقوش؟
التضحية بالمنقوش
ولدت نجلاء المنقوش عام 1973 في مدينة كارديف بويلز البريطانية. درست القانون وتحصلت على شهادة في القانون الجنائي وعلى الدكتوراه في إدارة الصراع والسلم. في 2011، شاركت كناشطة اجتماعية واعتادت الظهور بالحجاب وترأست وحدة المشاركة العامة التابعة للمجلس الوطني الانتقالي قبل أن تصبح في 2021 أول وزيرة خارجية ليبية في حكومة عبدالحميد الدبيبة. عرفت باسم "وزيرة الأزمات" خلال توليها الخارجية. وخلال عامي 2022 و2023 أثارت أزمات مع الجانب المصري في اجتماعات الجامعة العربية. كما أنها كانت قد أثارت قبلها أزمة بين الدبيبة وأنقرة بالحديث عن ضرورة انسحاب القوات التركية من ليبيا.
للمفارقة، وبعد تسريب لقائها بكوهين، وتنصّل الدبيبة منها هربت ليبيا باتجاه تركيا فيما تداولت وسائل التواصل صورة تظهرها في سيارة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
فرت المنقوش من ليبيا على متن طائرة خاصة من نوع "فالكون" رقم "5" تابعة لحكومة الوحدة الوطنية المؤقتة (برائسة الدبيبة). غادرت مطار معيتيقة الدولي متجهة إلى إسطنبول ومنها إلى لندن حيث تقيم باقي أسرتها. وبحسب جهاز الأمن الداخلي الليبي فقد تم إدراج "المنقوش" في قائمة الممنوعين من السفر، فيما يؤكد الجهاز أنها لم تمر عبر القنوات الرسمية في مطار معيتيقة الدولي.
العقل المدبّر لمحاولات "التطبيع" بين طرابلس من تل أبيب
يُعتبر رئيس اتحاد اليهود الليبيين رافاييل لوزن العقل المدبر للقاءات الليبية - الإسرائيلية. فرغم أنه لم يكن على صلة باللقاء الدبلوماسي الأخير، إلا أنه سهل اتصالات بين مسؤولين إسرائيليين وليبيين رفيعي المستوى قبل حوالي ست سنوات، ما فتح الطريق أمام لقاء الأسبوع الماضي. ففي يونيو من العام 2017، رتب لوزون اجتماعا في اليونان ضم وفودا من البلدين بحضور وزراء من الحكومة الاسرائيلية وأغلبهم من أصول ليبية. في حين ترأس الوفد الليبي وزير الإعلام والثقافة والآثار آنذاك عمر القويري.
المؤتمر، الذي عقد على مدار ثلاثة أيام، ركز على الذكرى الخمسين لطرد اليهود من ليبيا بعد حرب يونيو 1967. وفي المؤتمر، تحدث المندوب الليبي عن حق اليهود الليبيين في العودة إلى البلاد والحصول على تعويضات عن الخسائر التي لحقت بهم. كشف لوزون أيضا أن الاجتماع أعقبته في السنوات اللاحقة سلسلة من اللقاءات الأخرى بين مسؤولين إسرائيليين وليبيين في روما وتونس واليونان. إذ يقول في مقابلة مع إعلام إسرائيلي، "اللقاء الذي جرى الأسبوع الماضي بين كبار الدبلوماسيين، كان تتويجاً لست سنوات من العمل.. الاجتماع كان ينبغي أن يعقد في وقت أقرب بكثير، لكن عدم الاستقرار الحالي في ليبيا لم يسمح بذلك"
وكانت آخر مرة زار فيها رئيس اتحاد يهود ليبيا البلاد عام 2012، بعد وقت قصير من سقوط القذافي. وخلال الزيارة اختطفته ميليشيا واحتجزته لمدة ثمانية أيام قبل إطلاق سراحه، ليستمر في محاولاته للتقريب بين البلدين سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
رجح لوزون أن يكون الهدف من تسريب لقاء المنقوش - كوهين اختبارا لرد فعل الرأي العام وخاصة الليبي. وتوقع لوزون في مقابلة مع بوابة إفريقيا الإخبارية أن تهدأ الاضطرابات التي صاحبت الإعلان عن اللقاء إلا إذا تم استخدام الاضطرابات لإسقاط حكومة الدبيبة.
إذا، فإنّ تصريحات لوزون تؤكد علم الدبيبة ومساعيه، كما تؤكد أنه ضحّى بالمنقوش واستخدمها "كبش فداء".
"المنقوش" توتر العلاقة بين واشنطن وتل أبيب
أفادت القناة الثالث عشرة الإسرائيلية باستدعاء القائم بأعمال السفير الأميركي لدى تل أبيب لوزير الخارجية الإسرائيلي "إيلي كوهين". وذكرت القناة الإسرائيلية أنّ القائم بأعمال السفير الأميركي قدّم لكوهين احتجاج واشنطن على تسريب الاجتماع مع المنقوش. وتتابع القناة، أنّ "كوهين" قال إنّ إسرائيل تتفهم المشكلة، مشيرا في الوقت ذاته، على أنّ الأمر لم يكن تسريبا متعمدا. في السياق، كشفت القناة الإسرائيلية عن منع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الوزراء من تسريب أي لقاءات سرية دون الرجوع إليه بعد الأزمة مع ليبيا.
من جانبه، جدد كوهين تنصله من تسريب اللقاء مدافعا عن وزارته ضد معارضين اتهموها بعدم الاحترافية. وقال كوهين في تغريدة على حسابه بمنصة X إن وزارته تعمل بانتظام من خلال القنوات العلنية والسرية على تعزيز علاقات إسرائيل في العالم. وكان قادة المعارضة الإسرائيلية قد وجهوا انتقادات حادة لوزير الخارجية لكشفه عن أخبار اجتماعه الأخير مع نظيرته الليبية من دون تنسيق معها، معتبرين ما حدث بمثابة تفجير عبوة ناسفة ضخمة للدبلوماسية الإسرائيلية. فيما وصف رئيس المعارضة يائير لابيد تسريب اللقاء بالعمل غير احترافي وغير المسؤول ويظهر الفشل الخطير في الحكم على حد وصفه.
هذا الصراع الداخلي الإسرائيلي على خلفية تسريب اللقاء واكبه "غضب" أميركي بالتوازي. وقد أعرب مسؤولون أميركيون في رسالة عن "غضبهم" من تسريب اللقاء، وأوضحوا أنّه قد يكون أنهى جهد سنتين قادتهما واشنطن لتقريب ليبيا من التوقيع على الاتفاقيات الإبراهيمية.
واعتبروا أيضا أنّ التبرير الاسرائيلي غير مقنع وأنّ ذلك من شأنه أن يردع دولا أخرى من الانخراط في تفاهمات تعاون وتطبيع مع تل أبيب.