النظام يستشرس لقمعها.. الصحافة اللبنانية على مفترق خطير

"أرشيفية"
تقف الصحافة اللبنانية اليوم على مفترق خطير جداّ. فإما أن يسترجع الصحفيون هامش الحرية الذي كان متاحاً قبل سنوات، ويرفضون القمع المتزايد، وإما أن يستمر لبنان في عملية استنساخ النظام الأمني السوري الذي يكم أفواه الإعلاميين بالقمع والقتل والاعتقال بتهم مفبركة فلا يبقى صوت سوى صوت النظام.
فما جرى مع الزميلة مريم مجدولين اللحام، نهار الأربعاء، انتهاك فاضح لحقوق الإنسان قبل أن يشكل انتهاكاً لكل صحفي. انتهاك يصعب تجاوزه إلا من قبل من يرتضي به أو ينتفع من نظام القمع. لكّن النيّة الواضحة لسجن مريم مجدولين، أحبطتها صلابة محاميتها، ديالا شحادة، التي اعتادت أن تهرع للدفاع عن ضحايا القمع والاستضعاف. وكذلك حملات التضامن واستنفار صحافيين أدركوا اللعبة الخبيثة الجديدة التي لوّح بها القضاء ضدهم عندما صعّد ضد صحافية وانتهك حرمة منزلها وخصوصيتها.
وذلك بعد رفض مجدولين الخضوع لإملاءات المحامي العام التمييزي القاضي غسان خوري ومن يأتمر به، وصمودها أمام مكتب المباحث الجنائية الذي حرّكه النائب العام التمييزي غسان عويدات لاستدعائها بعد إخبار من رئيس المحكمة الشرعية السنية الشيخ محمد عساف. فقد لجأ عساف لعويدات لإسكات مجدولين والضغط عليها للتعهد بعدم طرح أية شبهة فساد تطال عساف.
قبل استدعاء مجدولين بحوالي أسبوع قام الجهاز نفسه بإمرة عويدات بتوقيف الكوميدي نور حجار بعد أن تقدم دار الفتوى بإخبار ضده بسبب مشهد مقتطع من نكتة أداها على المسرح قبل خمس سنوات. فما كاد حجار يخرج من المحكمة العسكرية التي استدعته للتحقيق معه في دعوى أخرى بسبب نكتة تطرح مسألة اضطرار عناصر الجيش اللبناني للعمل في خدمة توصيل المأكولات نتيجة تدني أجورهم حتى جرى توقيفه واقتياده إلى قصر العدل واحتجازه هناك لساعات. حصل كل ذلك في الوقت الذي كان فيه القضاء يتساهل مع الحاكم السابق للمصرف المركزي رياض سلامة، ويمنحه فرصة جديدة للهرب من التحقيق معه بأعظم سرقة طالت اللبنانيين.
عويدات نفسه الذي حرك المباحث الجنائية لقمع مجدولين اللحام ونور حجار، كان قد استدعى في نيسان الماضي الصحافي جان قصير من منصّة ميغافون، بطريقة غير قانونية، للتحقيق معه على خلفية منشور بعنوان "لبنان يحكمه فارون من العدالة"، ورد فيه اسم عويدات كأحد الفارين من العدالة. وذلك كون عويدات أحد الذين ادّعى عليهم المحقّق العدلي طارق بيطار في قضيّة المرفأ لكنه لم يمثل أمام العدالة. بل انقلب على التحقيق وادعى على المحقق العدلي بينما أطلق سراح جميع الموقوفين في القضية.
استدعاء قصير لم يخل من الترهيب. إذ اعترض عنصران من أمن الدولة سيّارته "على طريقة عناصر الميلشيات وعصابات الخطف" وفق بيان تجمع نقابة الصحافة البديلة، لإبلاغه بالاستدعاء المخالف للقانون لوجوب الحضور إلى مديريّة التحقيق المركزي في المديرية العامّة لأمن الدولة، دون أن يفصح العنصران عن سبب الاستدعاء. وبذلك لم يطبق عويدات ولا مبعوثوه القانون. إذ لا يصحّ للنيابات العامّة التحرّك في قضايا القدح والذمّ من دون وجود ادّعاء شخصيّ من المتضرِّر. كما كان يفترض الادعاء على قصير أمام محكمة المطبوعات المعنية بالتحقيق مع الصحفيين، وإبلاغه بالدعوى وفق الأصول القانونية. لكنها أصول فاتت النائب العام التمييزي، ربما نتيجة الانفعال.
القمع نهج كرّسته السلطة في القضاء
ليس عويدات وخوري القاضيان الوحيدان الذان يطاردان الصحافيين. بل يبدو أنه نهج كرّست السلطة السياسية في القضاء. تطول لائحة هؤلاء القضاة لكن يمكن تعداد بعضهم. ففي تموز الماضي أثبتت القاضية المنفردة الجزائية في بيروت، روزين حجيلي، نفسها على قائمة القضاة الذين يجهدون لإسكات الصحفيين. حيث أصدرت حكماً قضائياً بسجن الزميلة ديما صادق، وهي من أبرز مقدمات البرامج التلفزيونية، لمدة سنة في الدعوى المقامة ضدّها من قبل التيار الوطني الحر برئاسة النائب جبران باسي،. وبدفع غرامة مالية.
في الأسبوع نفسه، الذي استدعي فيه قصير، استدعى النائب العام الاستئنافي في بيروت زياد أبو حيدر رئيسة تحرير موقع “مصدر عام” الصحافية لارا بيطار إلى التحقيق لدى مكتب جرائم المعلوماتيّة بشكوى مقدّمة من حزب القوات اللبنانيّة بسبب مقال نشرته على الموقع قبل حوالي عام. وفي حزيران، استدعى المحامي العام الاستئنافي في بيروت زاهر حمادة رئيسة تحرير منصّة “شريكة ولكن" الصحافية حياة مرشاد إلى التحقيق لدى مكتب مكافحة الجرائم الالكترونية جرّاء شكوى مقدمة ضدها من المخرج جو قديح على خلفية مقال. ورفض هؤلاء المثول أمام الأجهزة الأمنية مشددين على أنّ محكمة المطبوعات وقضاة التحقيق هم الجهات الوحيدة المخوّلة للتحقيق مع الصحافيين. ورغم ذلك استمرت الاستدعاءات غير القانونية بحق الصحافيين وجديدها استدعاء الصحافية في موقع "بيروت توداي" لين الشيخ غداً من قبل مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية.
يشار إلى أن الهدف المعلن من إنشاء المكتب كان مكافحة الإرهاب، لكنه يعمل على مكافحة الصحافيين.
وضمن مسلسل القمع، أوقفت شعبة المعلومات، في أيار، الصحافي المصري عبد الرحمن طارق في بيروت. ساعات من الخوف قضتها عائلته وأصدقاؤه خشية التهديد بترحيله إلى مصر حيث قد يواجه السجن بسبب آرائه، قبل إطلاق سراحه بعد ضغط حقوقيين. كذلك، اعتدى عناصر من الجيش اللبناني على مراسل قناة "الحدث" محمود شكر ومنعوا قناتَي "MTV" و"الجديد" من تغطية حادث انقلاب شاحنة تحمل أسلحة لحزب الله في منطقة الكحالة في آب. وفي الشهر نفسه منع الجيش فاروق مغربي من المشاركة في ندوة وإلقاء كلمة كما كان مقرراً.
مئات ملايين الدولارات صرفت لتحسين أداء الأجهزة دون جدوى
المفارقة أن ازدياد القمع في لبنان قد تزامن مع تلقي الأجهزة الأمنية والقضائية والعسكرية مئات الملايين من الدولارات بهدف تحسين الأداء على صعيد حقوق الإنسان. ووفق تقرير أعدته مؤسسة سمير قصير للدفاع عن الحريات، تلقى لبنان 324 مليون دولار بين العامين 2014 و 2021، أي خلال سبع سنوات، مقدمة من الولايات المتحدة الاتحاد الأوروبي بريطانيا وكندا. وقد شكلت استقلالية القضاء هدفاً أساسياً لهذه المساعدات. لكن يبدو أنها صرفت على الطريقة اللبنانية. وفي تقرير "سكايز" أكد المدير التنفيذي للمؤسسة، أيمن مهنا ازدياد الانتهاكات من قبل المؤسسات الأمنية والقضائية كاستدعاء الصحفيين بما يخالف القانون والتضييق على الحريات وحتى استخدام القوة المفرطة بالتعامل مع الصحفيين خلال تغطياتهم. واعتبر مهنا أن من أسباب ازدياد الانتهاكات "التذاكي" من خلال توكيل مهمة قمع التظاهرات إلى أشخاص غير أولئك الذين ترسلهم الأجهزة إلى التدريبات، وغياب القرار السياسي وكذلك استغلال هذه الأجهزة تعاطي المانحين وكأنها أموال للصرف فقط دون متابعة جدية لطريقة صرفها.
وليست صدفة أن يزداد القمع مع تعمق الانهيار والأزمات المعيشية والسياسية، ولا أن تعمل المرجعيات السياسية والدينية والأمنية بالتكافل والتضامن في ما بينها لإسكات كل من يكشف فضيحة أو يحمل خطاباً حقوقياً يسعى من خلاله لحماية ما تبقى من مصالح المجتمع. ففي هكذا ظروف، وللهروب من المحاسبة، يطوّع رجال الدين المقدسات للحفاظ على السيطرة على المجتمع. ويطوع السياسيون القضاء والأجهزة الأمنية لقمع معارضيهم وترهيب المواطنين عبرهم. إذ يخشى هؤلاء من رفع الصوت والاعتراض على واقعهم المزري خشية الابتلاء بالملاحقات الأمنية وتلفيق الملفات وما ينتج عن ذلك من استنزاف مادي ونفسي.
ويلجأ النظام اليوم لابتلاء الصحفيين والحقوقيين بالملاحقات واحتجاز حريتهم لساعات وانتهاك حقوقهم وخصوصياتهم، لترهيبهم واختلاق مشاكل تلهيهم عن متابعة ملفات الفساد والمطالبة بالعدالة. كذلك يسعى النظام عبر الترهيب لدفع هؤلاء كي يفرضوا هم وغيرهم الرقاية الذاتية على أنفسهم. بذا يسهل على المسؤولين الاستمرار بارتكاب المخالفات والاستمرار بالسياسات نفسها من دون أن يتمكن الجميع من توثيقها. كل هذا لتقويض الخطاب الحقوقي وتعميم لغة الترهيب بما يسمح للمجرمين بالاستمرار بجرائمهم.
فالحريات هي العدو الأول للأنظمة الفاسدة والديكتاتورية، لأن الحريات حارسة الحقوق، إذ لا يمكن الدفاع عن مصالح المجتمع من دون حريات تسمح بانتقاد أصحاب السلطة وطرح شبهات الفساد حولهم. أما التسويق لمسألة الحريات على أنها ليست أولوية الآن وعلى أنها أمور ثانوية في ظل الأزمة الاقتصادية فهو تضليل لصالح السلطة هدفه انتزاع مزيداً من الحقوق. فلا حقوق من دون حرية. والحريات أساس لقيامة أية مجتمع من انهياره.
ولا يمكن للبنان اليوم النهوض من أزماته من دون الحريات ومن دون الحق بمسائلة كل ذي سلطة. وطبعاً الحديث هنا حريات غير زائفة كتلك التي عمت لسنوات. بل حريات حقيقية. حريات تفك أسر الإعلام من سطوة السياسيين ما يوحدهم بمواجهة القمع ولا يبقي مهمة بعضهم قمع بعضهم الآخر.