صحف..

إطلاق النار على السفارة الأميركية في بيروت: "توترز" وفرضيات أخرى!

"أرشيفية"

الرياض

تطلّب الأمر ستّة أيام حتى تمكّنت الأجهزة الأمنية من اعتقال مطلق النار على السفارة الأميركية في عوكر في 20 أيلول الماضي. وأتت المفاجأة بكشف الأجهزة عن معلومات تفيد بأن الفاعل مجرّد عامل توصيل مأكولات في شركة "توترز" يدعى محمد مهدي حسين خليل، وبأنه قام بمفرده بالاعتداء على أقوى سفارة في لبنان فقط لأنه غضب من كلام موظف أمن يعمل فيها من دون أن يراه حتى، إنما خاطبه عبر الهاتف الداخلي (الأنترفون) قبل أكثر من شهر على مضي الحادثة.
 
هذه المعلومات لم يتلقاها كثر بجدية، وتحوّلت لمادة سخرية عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وتدلّ ردّة الفعل هذه على عدم الثقة بالتحقيقات نتيجة عدم تصديق بأنه يمكن لعامل توصيل، منفرد ومن دون غطاء سياسي، الاعتداء على السفارة الأقوى في لبنان وإكمال حياته بشكل طبيعي لأيام.
 
هي ردة فعل طبيعية في بلد يسيطر حزب الله على مؤسساته الأمنية، ويفرض روايته ويضع خطوطاً حمراء أمام المحققين تمنعهم من المضي قدماً في التحقيق حتى في جرائم اغتيال. ومن الطبيعي أن يطرح هذا المسار سؤالاً عن مدى قدرة المحققين على التوسع أكثر في التحقيقات للبحث عن دوافع وفرضيات أخرى ممكنة. بالتالي من الطبيعي عدم الاتكال كليّاً على روايات الأجهزة قبل قيام دولة قادرة وأجهزة أمنية تعمل بشكل مستقل ومن دون خطوط حمراء. وأيّاً كان مرتكب الاعتداء كان على الدولة اللبنانية وعلى الأجهزة الأمنية التي تستفيد من مساعدات السفارة الأميركية تسليم مطلق النار وتقديم تفسير لما جرى، وهو ما حصل. ذلك أنّ لبنان المنهار لا يحتمل تداعيات لفلفة قضية كهذه دون إيجاد أيّ مخرج لها.
 
على مواقع التواصل أيضاً مجّد بعض أبواق حزب الله بمرتكب الاعتداء ورأوا في تصرّف الشاب الساكن في الضاحية الجنوبية لبيروت انتفاضاً لكرامته وشجاعة. لكنّ فات هؤلاء أنّ رواية عامل التوصيل إن صحّت فهي تظهر هشاشة تهديدات حزب الله المستمرة، وتحديداً تلك التي يطلقها أمينه العام، حسن نصرالله، ضد "أميركا" والتي يحاول تحميلها كامل المسؤولية عن الانهيار المالي والأزمة الاقتصادية في البلاد لتبرئة الفاسدين.
 
في هذه النقطة، وبناءاً على خطاب وأدبيات الحزب، لا رغبة اللبنانيين، يجوز السؤال عن عجز الحزب المسلّح والذي يتباهى بقدراته الأمنية عن فعل ما يمكن لعامل توصيل واحد فعله وتعكير أمن السفارة لردعها عن الاستمرار بما يتّهمها به. لكنّ من الواضح أصلاً أنها ليست رغبة الحزب الذي يفاوض إسرائيل مختبئاً خلف "الدولة" عبر الولايات المتحدة الأميركية. وهو ما أدى لتوقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل والتخلي عن جزء كبير من المياه الإقليمية لصالح العدو. كما يلتقي الحزب مع أميركا على ضرورة الحفاظ على الاستقرار في لبنان على ما هو عليه.
 
هذا الاتفاق لا يبرئ الحزب من أيّ اعتداء ممكن ضد السفارة. فهو عادة ما يعمد إلى إيصال رسائل أو القيام بعمليات لا يتبناها بهدف تعزيز موقعه في عمليات التفاوض. فالحزب أصلاً قام على سياسة تنفيذ أعمال أمنية بغية جرّ خصومه للاعتراف به والتفاوض. ومن نقاط قوّته ارتكاب عمل أمني والتنصّل منه علانية والاسثمار به، كما تنصّل أو لم يعترف بالعديد من العمليات والتفجيرات التي ارتكبها حرصاً على مصالحه.
 
ولعلّ من أبرز الأمثلة تفجير حافلة بورغاس في بلغاريا في العام 2012، والتي كانت تقل سواحاً إسرائيليين، انتقاماً لمقتل القيادي في الحزب عماد مغنية. مثلاً، هي العملية لم يتبنها الحزب علانية حرصاً على مصالحه في أوروبا وخشية أن تضعه جميع دول الاتحاد الأوروبي على لائحة الإرهاب. وفي حين قتل في عملية التفجير المنفذ اللبناني-الفرنسي، أصدرت بلغاريا في العام 2020 حكماً بالسجن المؤبد على لبنانيين آخرين أحدهم يحمل الجنسية الكندية والآخر يحمل الجنسية الأسترالية.
 
بالعودة إلى حادث إطلاق النار على السفارة الأميركية في عوكر، ذكرت تسريبات نقلها الإعلام أن مطلق النار ترك عمله في "توترز" قبل حوالي 25 يوماً من تنفيذ الاعتداء، ما صعّب على المحققين تحديد هويته إذ لم يجدوا اسمه ضمن قائمة العاملين في الشركة يوم إطلاق النار.
وتشير هذه المعلومات إلى أن إطلاق النار على السفارة لم يكن تصرفاً انفعالية وليد لحظة غضب، إنما تم التخطيط له ببرودة وتم جمع معلومات أمنية خلال الفترة التي سبقته ما سهل على خليل القيام بفعلته والانسحاب دون التمكن من القاء القبض عليه. وبغض النظر عن دوافع الاعتداء ينبّه الحادث إلى فرضية استخدام مهنة التوصيل، التي عادة ما يمتهنها أشخاص مهمشون، لجمع معلومات أمنية وتنفيذ عمليات. إذ يمكن لعامل التوصيل القيام بعدة مهام أمنية من دون أن يرتاب أحد من تصرفاته.
 
وبالتأكيد أن الحزب الذي يجنّد أشخاصاً يخدمونه من مواقعهم الوظيفية المختلفة حتى ضمن أجهزة الدولة الأمنية، وفي مدن وبلدان مختلفة، يجنّد أشخاصاً يخدمونه في مهن مختلفة من ضمنها العاملين في شركات التوصيل وحتى في شركات الأمن الخاصة.
 
وأياّ كانت الرواية الحقيقية، وأياً كان الهدف من إطلاق النار، ليست أميركا عاجزة عن كشفها بل وحتى استثمارها سياسياً. فهي التي عادة ما تمنح خصومها هامشاً للتحرك ضمنه لتقوم بالاستثمار في هذا الهامش. وهو ما فعلته مع القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني. فلطالما تغاضت الولايات المتحدة عن الكثير من صولات وجولات سليماني في بلدان عربية عدّة، إلى أن قررت تصفيته في 3 كانون الثاني 2020، مع قيادي في الحشد الشعبي العراقي، بعد تجاوز خطوطها الحمر، وذلك بعد حوالي ثلاثة أيام من اقتحام ميليشيات عراقية تعمل تحت إمرة سليماني الباحة الخارجية للسفارة الأميركية في المنطقة الخضراء في بغداد.