حظر تصدير الوقود يعرض اقتصاد روسيا إلى مخاطر أكبر
شهدت روسيا في الآونة الأخيرة اختلالات أثرت على السوق المحلية رغم أنها تعد مصدرا مهما للطاقة في العالم، الأمر الذي يراه محللون أنه يكشف مشاكل منهجية وضغوطا على اقتصاد البلاد في وقت الحرب قد تتفاقم وتشكل خطرا أكبر على مستوى النمو.

حظرت الحكومة الروسية تصدير جميع المنتجات البترولية في محاولة للتعامل مع الوضع المتقلب، لكن هذا المسار أثبت وجود أزمة ومواجهة محمومة تكشف مشاكل متراكمة في قطاعي الاقتصاد والإدارة في روسيا.
وأعلنت موسكو في سبتمبر الماضي أنها ستقيّد مؤقتا صادرات البنزين ووقود الديزل من أجل “استقرار” السوق المحلية، وسط ارتفاع الأسعار وتقارير عن نقص في بعض المناطق.
وجراء ذلك ارتفع معدل التضخم الشهر الماضي إلى 6 في المئة مقارنة مع 5.5 في المئة قبل شهر، وفق الأرقام التي نشرتها وكالة الإحصاء الحكومية (روستات) الأربعاء الماضي، في وقت تواجه فيه موسكو أيضا تراجعا في قيمة الروبل.
ويقول الباحث سيرجي فاكولينكو في تقرير نشرته مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي إنه في الأشهر الماضية سجلت روسيا ارتفاعا في أسعار الوقود، وعجزا حادا في منتجات البنزين في بعض المناطق.
وتساءل فاكولينكو الذي شغل منصب مدير التخطيط الإستراتيجي في شركة غازبروم الروسية: كيف يمكن لعملاق منتج للنفط مثل روسيا أن يعاني من نقص الوقود؟
وبحسب المحلل يرجع الأمر جزئيا إلى الجهود المبذولة لحماية أسعار الوقود المحلية من تقلبات السوق، وكذلك نتيجة للتصارع الداخلي الحكومي. وهو أيضا دليل صارخ على أن ضغوط الحرب في أوكرانيا تكشف عن نفسها في أماكن غير متوقعة.
ولطالما ركز تطوير صناعة تكرير النفط في روسيا على الصادرات. وتنتج روسيا نحو 15 في المئة من البنزين أكثر مما تحتاجه البلاد، بينما يباع 56 في المئة من الديزل المنتج بروسيا في الخارج. وتمتلك روسيا سعة تخزين تشغيلية فقط للوقود، وتعمل كمخازن في سلسلة التوريد، ولكن لا يوجد تخزين إستراتيجي.
ويواجه الاقتصاد الروسي حزما من العقوبات الغربية على خلفية الهجوم الشامل على أوكرانيا منذ أكثر من عام وتسبب ذلك في تدهور سعر صرف العملة المحلية لأكثر من 100 روبل مقابل الدولار مرات عدة في الأشهر الأخيرة.
وفي بورصة موسكو بلغ سعر الصرف 100 روبل للدولار و106.5 روبل لليورو. ولمواجهة انخفاض قيمة الروبل وارتفاع التضخم، رفع البنك المركزي الروسي سعر الفائدة الرئيسي من 8.5 إلى 12 في المئة ثم إلى 13 في المئة.
وحذّرت رئيسة البنك المركزي الروسي إلفيرا نابيولينا من أن النمو الاقتصادي في روسيا سيتباطأ في النصف الثاني من العام، لكن الرئيس فلاديمير بوتين قلّل من أهمية التحديات الاقتصادية، قائلا إن اقتصاد بلاده التي تعاني العقوبات “مستقر”.
ولسنوات، حاولت موسكو الحفاظ على سوق حرة ظاهريا للمنتجات البترولية وتنظيم الأسعار بطريقة تضمن استقلالها عن الاقتصاد العالمي. والهدف هو منع أسعار البنزين من الارتفاع وإبقاء المستهلكين الروس سعداء.
ومع ذلك، فقد تسبّبت الأسعار المنخفضة بشكل مصطنع في بقاء استهلاك الطاقة مرتفعا وبات الحفاظ عليها صعبا ومكلفا بشكل متزايد، ومن المحتمل أن تجعل الاقتصاد عرضة لتقلبات أسعار الوقود، عندما تضطر الحكومة إلى التخلي عن ضوابط الأسعار.
واختبرت قوى السوق هذا النظام عدة مرات، الأمر الذي أجبر السلطات على البحث عن حلول سريعة. ففي 2022 نجت روسيا من تقلبات العملة وارتفاع أسعار النفط العالمية، لأن العقوبات الغربية تعني أن شركات النفط الروسية تواجه صعوبات في التصدير. كما ساعد في الأمر قرار الحكومة بحساب ضريبة استخراج المعادن بما يتماشى مع عروض أسعار النفط الرسمية التي لا علاقة لها بالواقع.
ومع ذلك، فبحلول صيف 2023، وجدت شركات النفط مشترين جددا وتوصلت إلى طرق جديدة لنقل النفط والمنتجات النفطية وتحصيل المدفوعات، مما سمح لها بتخفيف العقوبات الغربية واستئناف الصادرات.
وقد عدلت الحكومة عروض الأسعار التي استخدمتها لحساب ضريبة استخراج المعادن. وفي الوقت نفسه، قفزت الأسعار العالمية، إذ ارتفعت أسعار المنتجات البترولية بوتيرة أسرع من أسعار النفط الخام، وضعف الروبل. ما يعني أن هناك فرقا أكبر من أيّ وقت مضى بين السعر المحلي الموصى به وسعر السوق العالمي.
كما تغيرت ديناميكيات استهلاك المنتجات البترولية في روسيا. وكان هناك ازدهار في الطلب في جنوب غرب البلاد بسبب المتطلبات العسكرية وسط الحرب في أوكرانيا.
وبالإضافة إلى ذلك، نضج محصول الحبوب في وقت أبكر من المعتاد، واستغرقت الصيانة في العديد من المصافي وقتا أطول مما كان متوقعا، وهو على الأرجح نتيجة للعقوبات الغربية التي جعلت من الصعب الحصول على قطع الغيار والمواد التي تستهلك.
ويقول فاكولينكو إن النتيجة كانت عجزا إقليميا حادا في المنتجات النفطية وارتفاعا في الأسعار. وكانت سكك الحديد التي كان من الممكن استخدامها لجلب الإمدادات من المناطق دون نقص محملة فوق طاقتها بسبب المتطلبات العسكرية على الأرجح.
وقررت وزارة المالية، تحت ضغط زيادة الإيرادات لتمويل الإنفاق العسكري المتضخم، خفض ما يسمّى بـ”المدفوعات المخففة” المصممة لتعويض شركات النفط عن بيع الوقود في السوق المحلية.
وأدى الأمر حتما إلى وضع لا تستطيع فيه الشركات تزويد السوق المحلية إلا بخسارة، سواء مقارنة بالصادرات أو بالقيمة المطلقة. وبدأت التخفيضات في “المدفوعات المخففة” في سبتمبر، ولكن تم الإعلان عنها في يوليو وكان تأثير السوق فوريا.
وسرعان ما أصبح نقص المنتجات البترولية مشكلة خطيرة للسلطات. وبالإضافة إلى التسبب في مشاكل اقتصادية، لاسيما في قطاعي النقل والزراعة، فإنه يظهر أن المسؤولين فقدوا السيطرة على الوضع، بحسب فاكولينكو .
ولم تلق الجهود المبذولة لإقناع شركات النفط بالعمل بخسارة آذانا صاغية. كما لم تكن وزارة المالية مستعدة لإعادة “المدفوعات المخففة” إلى مستواها السابق. وفي الواقع، ألقت وزارة المالية باللوم على وزارة الطاقة في الأزمة. وفي النهاية ، قررت الحكومة لعب ورقتها الرابحة وحظر جميع صادرات الديزل والبنزين.
وبعد أسبوعين، رفعت الحكومة جزئيا القيود المفروضة على صادرات الديزل للكميات التي تصل إلى الموانئ عبر خطوط الأنابيب للشركات التي تزود ما لا يقل عن نصف الديزل المنتج إلى السوق المحلية.
ولا تزال القيود المفروضة على صادرات البنزين، وكذلك على الديزل، الذي يتم تسليمه إلى الموانئ عبر السكك الحديد، سارية. وبغض النظر عن مدى قصر مدة الحظر الكامل، فقد كانت خطوة قاسية ذات تداعيات طويلة الأجل.
وتفاقمت المشكلة الأخيرة في السنوات الماضية حيث تسعى شركات النفط إلى تحقيق وفورات في الكفاءة من خلال الانتقال إلى نموذج التشغيل في الوقت المناسب وإغلاق منشآت التخزين غير الضرورية.
وبحسب فاكولينكو، كان استخدام الخيار المتمثل في فرض حظر على الصادرات علامة على اليأس. وكان المسؤولون الحكوميون يحاولون أن يظهروا للروس العاديين، وكذلك رؤسائهم في الكرملين، أنهم يتخذون إجراءات حاسمة. لكنها كانت أيضا محاولة للأخذ بزمام المبادرة في المفاوضات مع شركات النفط.
وعندما كان هناك عجز، ناشد المسؤولون شركات النفط تقديم تنازلات، في حين أن الحظر قلب الطاولة على الشركات، مما أجبرها على تقديم التماس إلى الحكومة والتوصل إلى حلول ممكنة.
ويقول فاكولينكو إن الدولة لعبت دورا أكبر من أيّ وقت مضى في أسواق الطاقة الروسية في السنوات الأخيرة، وأصبح نظام تنظيم أسعار الوقود المحلية أكثر تعقيدا. ويضيف أنه “مع ضيق مجال المناورة وعدم وجود فرصة لحدوث تحول في السياسة، فإن النظام الروسي القائم سيستمر في أن يصبح أكثر تعقيدا وضعفا، وأقل فعالية”.