الأحزاب التونسية ترد على إزاحتها من المشهد بانتقاد متواصل لتوجهات قيس سعيد
تتصيّد الأحزاب السياسية التي خرجت من المشهد التونسي وساند معظمها إجراءات الرئيس قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو ثم تراجعت عن ذلك، الفرص لتوجيه انتقادات لاذعة للمسار برمته، من خلال التشكيك في إمكانية نجاحه، في وقت يشارف فيه المسار على استكمال مراحله بإجراء الانتخابات المحلية، مقابل تزايد عزلتها سياسيا وشعبيا.
باتت الأحزاب السياسية التي ظهرت للعلن بعد انتفاضة 2011 في تونس، تنتقد توجهات الرئيس قيس سعيد ومسار 25 يوليو 2021 الذي يتبناه، وأصبحت لا تفوّت أيّ فرصة للاعتراض على أي خطوة يخطوها قيس سعيد.
ويقول مراقبون إن ما تقوم به منظومة الأحزاب في تونس هو ردّة فعل طبيعية، خصوصا بعد إزاحتها من المشهد السياسي الذي كانت تتحكم فيه وتساهم في صناعة القرار السياسي بالتحالفات والمحاصصات الحزبية.
ويضيفون أن الأحزاب مازالت تحت وقع صدمة الخروج “المدوي” من المشهد البرلماني والسياسي، ولم تستوعب إلى حد اللحظة أنها أصبحت خارج دائرة المعادلة السياسية، خصوصا بعد أن لفظتها شريحة واسعة من الشعب وفشلت سياسيا وجماهيريا وحتى فكريا في بناء وسائط متماسكة تحظى بثقة الناخبين وتدافع عن قضاياهم.
وفي الوقت الذي تجمع فيه أوساط سياسية على أن الرئيس سعيد قطع خطوات جدية نحو تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للتونسيين بالسعي إلى معالجة ملفات لم تتجرأ الحكومات السابقة على فتحها، رغم العديد من المطبات والصعوبات، فإن أحزاب ما بات يعرف في البلاد بـ”العشرية السوداء” تزعم أنه انشغل بتقديم خطابات ومواقف للردّ على خصومه السياسيين، عوض الانكباب على فتح الملفات الحارقة والسعي لمعالجتها.
ودفعت مواقف قيس سعيد العديد من الأحزاب، مثل الحزب الدستوري الحر وحركة الشعب والتيار الديمقراطي، إلى وقف دعمها لإجراءات 25 يوليو وانتقاد الرئيس.
واعتبر حزب التيار الديمقراطي أنّ مشروع قانون الماليّة لسنة 2024 لم يكن مشروع قانون “للتعويل على الذات”، مثلما ورد في الخطاب الرسمي، “بل مشروع قانون للتعويل على الاقتراض الخارجيّ والزيادة في نسبة المديونية”.
وأوضح التيار الديمقراطي، في بيان أصدره ليل الأحد عقب انعقاد مجلسه الوطني يومي 28 و29 أكتوبر الحالي، أن مشروع قانون الماليّة للعام القادم تضمّن “نسبة نموّ متوقّعة ضعيفة وغير قادرة على خلق الثروة واستيعاب البطالة”، فضلا عن اعتماده على فرضيّات “غير واقعيّة مواصلة في سياسات الترقيع”، مشيرا إلى غياب الإصلاحات الهيكليّة للاقتصاد التونسيّ والماليّة العموميّة رغم الصلاحيات الواسعة للسلطة الحاكمة.
لكن خبراء في الاقتصاد يعتبرون أن مشروع قانون المالية للسنة الجديدة واقعي وبداية تحسن للوضعية الجبائية في تونس، خاصة أنه لم يسبب ضغطا جبائيا إضافيا.
وأكد سامي ثابت، المستشار الجبائي والأستاذ الجامعي في معهد الدراسات التجارية العليا بقرطاج، في تصريح لوكالة الأنباء التونسية أنّ “الحكومة أقرّت جملة من الإجراءات الجديدة لـ2024 – 2025، من أهمها توظيف معلوم ظرفي بنسبة 4 في المئة على مرابيح البنوك والمؤسسات المالية وشركات التأمين لفائدة ميزانية الدولة، لتصل الأداءات الجبائية الموظفة على القطاع إلى 43 في المئة”، معتبرا أن “الإجراء يأتي نظرا للزيادة المهمة التي حققها القطاع في ظل الأزمة الاقتصادية التي احتدت بعد جائحة كورونا”.
وسبق أن قالت أوساط مقربة من الرئيس إن بعض قياديي الأحزاب يعتقدون أنه استفاد منهم ويريدون حصة في السلطة الجديدة، لذلك لا يثق قيس سعيد بالأحزاب ووضع مسافة بينه وبينها.
وكان الرئيس سعيد لمّح، بعد أن اتخذ الإجراءات الاستثنائية، إلى أن قيادات من التيار الديمقراطي سعت من وراء دعمها له للحصول على مناصب ولكن عندما فشلت في ذلك غيرت موقفها من مسار 25 يوليو.
وكثيرا ما راهنت الأحزاب على فشل مسار 25 يوليو واستكمال مراحله وشككت في استمراره، بالتزامن مع غياب قاعدة حزبية أو حزام سياسي حول الرئيس، لكن قيس سعيّد وجّه خطابا واضحا أوصى فيه بمحاربة الفساد الإداري والمالي والقيام بإصلاحات والتعويل على الذات دون الارتهان بالجهات الدولية المانحة.
وكان الرئيس سعيد أكد في لقائه يوم 11 أكتوبر الجاري برئيس الحكومة أحمد الحشاني ووزيرة المالية سهام البوغديري نمصية، بشأن مشروع قانون المالية لسنة 2024 ومشروع قانون المالية التعديلي لسنة 2023، على ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية والنمو الحقيقي بناء على الإمكانيات والاختيارات الوطنية.
وقال إن “تونس قادرة بإمكانياتها الذاتية على تخطي كل الصعوبات بعزم شعبها على استقلال قرارها الوطني”.
وتطلع التونسيون، بعد إجراءات الخامس والعشرين من يوليو 2021، إلى ظهور مرحلة جديدة من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي بعيدا عن الانقسام الذي كان يشهده الشارع، فضلا عن مشهد برلماني وسياسي مأزوم غذته المشاحنات والتجاذبات بين الأحزاب وأهمل مشاغلهم وهمومهم.
ونجح قيس سعيد، القادم من خارج منظومة الأحزاب ومن خارج دائرة الفاعلين السياسيين المعروفين في البلاد، في لفت نظر التونسيين ودفعهم إلى التصويت لفائدته.
وقال محمد العربي العيّاري، الباحث في العلوم السياسية، “نقد السلطة هو الدور الطبيعي للأحزاب والمنظمات الوطنية، لكن النقطة غير الواضحة للأحزاب هي التذمّر المتواصل من كل خطوات الرئيس سعيد”.
وأكد لـ“العرب” أنه “عند المقارنة بين العشرية الماضية وما يحدث الآن لا نجد اختلافا كبيرا في إعداد الميزانية، لكن ما تفعله الأحزاب عبث، في وقت يفترض فيه أن تتوجه إلى العمل ومراجعة توجهاتها”.
وأضاف العياري “بعض الأحزاب جاءت بمحض الصدفة، وهي في الأغلب جاءت على أنقاض أحزاب اندثرت، وخلال فترة ما أصبحت هناك طفرة في الأحزاب داخل البلاد”، لافتا إلى أن “هناك فقط ثلاثة تيارات كبرى وهي اليسار والعائلة الدستورية والإسلاميون، ولا يوجد بناء حزبي قائم على أطروحة معينة أو عمق وامتداد شعبيين”.
واستطرد قائلا “قد تعود الأحزاب إلى المشهد، لكن لن تكون كما كانت عليه، بل ستحدث انسلاخات، وأصبح المواطن لا يتحدث عن أحزاب بالطريقة الكلاسيكية”.
وكانت الأحزاب التونسية باختلاف تياراتها الفكرية والسياسية تمني النفس بلعب دور سياسي في مسار قيس سعيد، فسارع أغلبها إلى مساندة المسار، لكنها أيقنت فيما بعد أن الرئيس يرفض التعامل مع منظومة الأحزاب بشكل مبدئي، وهو ما عمل قيس سعيد على التذكير به مرارا بقوله “لا عودة إلى الوراء”.
ويرى متابعون أن الرئيس سعيد قام في مرحلة أولى بوقف حكم منظومة الأحزاب عبر حل الحكومة وتجميد البرلمان ثم حله لاحقا، وإنهاء النظام البرلماني الذي كان يؤسس لصراع السلطات، ثم قام بالخطوة الأهم، وهي إسقاط حكم المنظومة.
وأفاد المحلل السياسي نبيل الرابحي بأن “الأحزاب لم تعد تمثّل إلا نفسها وليس الشعب، والتيار الديمقراطي كان من المساندين لمسار 25 يوليو في البداية ثم انقلب عليه لأنه اعتبر أنه عودة بالحكم إلى الوراء”.
وأضاف في تصريح لـ”العرب”، أن “توجهات الرئيس سعيد هي فلسفة جديدة وبعيدة كل البعد عن المحاصصة الحزبية والسياسية، لكن الأحزاب تتصيد كل الفرص لانتقاد الرئيس والحكومة، لأن منظومة الحكم الجديدة أخرجتها من المشهد”.
وأردف الرابحي “على هذه الأحزاب أن تقوم بمراجعات جذرية لأن الشعب لفظها وفشلت سياسيا وجماهيريا وفكريا، وعليها الآن أن تفكر في أطروحات جديدة”.
وتأثرت معظم الأحزاب السياسية في تونس تأثرا شديدا بتداعيات مسار الخامس والعشرين من يوليو وما تضمنه من إجراءات تعكس رفض الرئيس قيس سعيد وجود أجسام وسيطة بين الشعب والسلطة السياسية.