فتاوى مصرية تعتبر الامتناع عن التصويت في الانتخابات الرئاسية إثما

حضور طاغي في المشهد السياسي

القاهرة

وصل الحضور السياسي لدار الإفتاء المصرية إلى ما هو أبعد من دعم النظام في مواجهة التحديات التي تواجه الدولة على وقع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، إلى حد ترهيب الممتنعين عن التصويت في انتخابات الرئاسة المقرر لها مطلع ديسمبر المقبل، ووصفهم بأنهم “آثمون شرعا وكاتمون للشهادة”.

وبدت دار الإفتاء متماهية مع الحكومة في ملف الحشد الجماهيري لانتخابات الرئاسة، ما أدى لاتهامها بتوظيف الدين لأهداف سياسية، وقوبل خطابها بتحفظ من المؤيدين والمعارضين للسلطة، لأنه يتعارض مع مدنية الدولة المصرية.

وأجاب شوقي علام مفتي الديار المصرية على سؤال الإعلامي حمدي رزق في برنامج “نظرة” على فضائية “صدى البلد”: هل المشاركة في الانتخابات الرئاسية واجب وطني أم ديني؟ بأنه لا فارق بينهما، لكن الممتنع عن التصويت كالشخص الذي امتنع عن الشهادة ورفض القيام بواجباته التي تحث عليها الشريعة.

ونشر الموقع الرسمي لدار الإفتاء فتوى خاصة بحكم الامتناع عن التصويت في الانتخابات مفادها أن الإسلام حث المسلمين على التحلي بالصدق والأمانة والتخلي عن الكذب والخيانة، وأمر المسلم بأداء الأمانة بكل أنواعها وأشكالها، والتصويت في الانتخابات هو جزء من أداء هذه الأمانة.

وأكدت الدار أن الممتنع عن أداء صوته الانتخابي آثم شرعا، ومثله من يدفع صاحب الشهادة إلى مخالفة ضميره أو عدم الالتزام بالصدق الكامل في شهادته بأيّ وسيلة من الوسائل، كذلك من ينتحل اسما غير اسمه ويدلي بصوته بدل صاحب الاسم المنتحل يصبح مرتكبا لغش وتزوير يعاقب عليه شرعا.

واستقبل مصريون فتوى تحريم الامتناع عن التصويت في الانتخابات بسخرية لا تخلو من غضب، كونها تحمل رسائل سياسية وترهيبا دينيا لمن يعترضون على المشاركة، مع أن الخطاب الديني ليس دوره إضفاء القدسية على الاستحقاق الرئاسي أو خدمة مرشح بطريقة تظهره كأنه يتسول المشاركة.

ويؤكد رافضون لانخراط المؤسسة الدينية في الشأن السياسي بأن أهدافها تبدو كنوع من التعبئة العامة، لكن الخطورة أن يتعامل الشارع مع خطابها باعتباره موجّها من السلطة، ما يعطي الناس حق قبوله أو رفضه، والشك في أهدافه وتوقيته ودوافعه.

واستبعدت دوائر سياسية وقوف النظام صراحة وراء فتوى الحث على النزول للانتخابات، على الرغم من أنه المستفيد الأول منها، لكن المؤسسة الدينية اعتادت التبرع بمجاملة الحكومة في الكثير من المواقف والدفاع عن قراراتها وسياساتها وإظهار الولاء والتقرب والإيحاء بأنها جزء من مواجهة تحديات الدولة.

وترى هذه الدوائر أن الظروف السياسية الراهنة تحفّز الكثير من المصريين على المشاركة في الانتخابات لتأييد الرئيس عبدالفتاح السيسي وتفويضه في مواجهة التحديات المرتبطة بالحرب على غزة، وليس لمجرد التصويت له أو غيره.

كما أن الأحزاب والتيارات الداعمة للسلطة تفعل ما بوسعها لحشد المواطنين للنزول للانتخابات من منطلق الدفاع عن مقدرات الدولة وأمنها القومي كرسالة للخارج تدل على توحد الشارع خلف السلطة في مواجهة التحديات، وهو ما كان يفرض على دار الإفتاء الابتعاد عن المشهد والتزام الحياد.

فهناك شريحة معتبرة تبرّر رفضها لإقحام أيّ مؤسسة دينية نفسها في جدل من هذا النوع بأنه ليس منطقيا مواجهة الإخوان بنفس أسلوبهم القائم على توظيف الدين لأغراض سياسية، لأنهم من كانوا يحققون أهدافهم وقت حكم مصر بإطلاق فتاوى من هذه النوعية بذريعة الحفاظ على الأمن والاستقرار.

ويبني هؤلاء رؤيتهم على أن المؤسسة الدينية ليس من أدوارها القيام بدور الحزب الديني، سواء طُلب منها ذلك أم لا، فهذه تحركات تجلب نتائج عكسية، ومهما دافعت عن موقفها بأنها مستقلة وغير موجهة سوف يظل خطابها محاطا بالتشكيك.

وقال أحمد بهاءالدين شعبان رئيس الحزب الاشتراكي لـ”العرب” إن تسييس الخطاب الديني أمر خطير، ويشوّه صورة الدولة والمؤسسة الدينية ويجلب نتائج سلبية، ويستدعي تجارب سابقة فشلت عندما وظفت الدين لخدمة السياسة.

وأضاف أن الزج بالدين في أمور سياسية يهز صورة الخطاب الرسمي أمام الشارع، والناس لن يهرولوا للتصويت استجابة لفتوى دينية، والشعب المصري أكثر ذكاء وعقلانية ويستطيع أن يميّز بين الأهداف السياسية والمآرب الشخصية، ويرفض مطلقا أن تكون عليه وصاية دينية من أيّ فصيل أو مؤسسة أو تيار.

ويتناقض الحضور الطاغي لدار الإفتاء، ووزارة الأوقاف أيضا، في المشهد السياسي، مع قناعات السلطة بأن الدين لا يجب أن يتشابك مع الحياة العامة ويتجاوز الحد المسموح به في دولة مدنية تجاهد لبناء جمهورية جديدة عصرية يحكمها الدستور والحرية الشخصية ولا تكون أسيرة لفتوى أو رؤى دينية.

ولم تدع الإفتاء المصرية للتصويت إلى إعادة انتخاب السيسي رئيسا لولاية ثالثة، لكن حضورها في المشهد يفقدها جزءا من هيبتها ومصداقيتها، وكلها أدوات لا غنى عنها لتمرير خطابها الديني، ولا يجعلها متهمة طوال الوقت بالتخديم على صانع القرار.

وضاعفت الدار من حضورها السياسي باستقبال المفتي للمرشح الرئاسي المعارض فريد زهران والتطرق إلى قضايا بعيدة عن صميم الدين، وعقد لقاء آخر مع الحملة الانتخابية للسيسي، والتأكيد على دور المؤسسة الدينية في حث الناس على المشاركة في الانتخابات باعتبار أن ذلك جزء من دورها في هذه الفترة.

وبات نزول المصريين بكثافة في انتخابات الرئاسة قضية مهمة للسيسي حاليا، لأن ذلك يحمل رسالة إلى الخارج بأن قراراته وسياساته المحلية أو حتى التي لها أبعاد إقليمية، محاطة بتأييد شعبي، لكن ذلك لا يجب أن يكون عبر خطاب ديني مشكوك في خلفياته.

وثمة وجهة نظر لا تمانع من وجود دعم ديني مرتبط بحث الناس على المشاركة في الانتخابات باعتبار المؤسسة الدينية جزءا من الدولة، ويجب أن يكون لها دور إيجابي في هذه المرحلة، لأنها تتحرك لمساندة الوطن ولا تتطرق إلى تأييد مرشح بعينه.

وبغض النظر عن رأي المؤيدين والرافضين لموقف دار الإفتاء فالمؤكد أن انشغالها بالسياسة يمنح خصوم الدولة المزيد من التربص والاستهداف بنفس السلاح، وهي طريقة تجيدها جماعات الإسلام السياسي، وبدلا من أن تواصل الحكومة السعي لإقصائهم من المشهد كليّا تمنحهم فرصة تطويع الدين لأهداف سياسية.