سرديات كاشفة لفلسطينيين وإسرائيليين أُطلق سراحهم

بالتوازي مع الحرب العسكرية، نشطت حرب الصورة وبلغت مداها في مشاهد تبادل الأسرى. وفيما رسمت إسرائيل صورة القوة والإذلال في التعامل مع خصومها، اختارت حماس صورة تقوم على اللين والحفاوة بشكل مبالغ فيه أحيانا، ولكل هدف من وراء الصورة التي رسمها لنفسه.

حماس تنجح في إدارة أزمة الرهائن

وكالات

يستطيع كل من تابع القصص التي جاءت على ألسنة بعض ممن أطلق سراحهم من الفلسطينيين والإسرائيليين أخيرا، أن يستشف الفروق الواسعة بين الأسرى والمحتجزين لدى كل من إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، فالصفقة التي عقدت بين الطرفين واستمرت وصمدت سبعة أيام تم بموجبها الإفراج عن العشرات من النساء والأطفال، قدمت سرديات متباينة عبر وسائل الإعلام بدت على طرفي نقيض.

وفي الوقت الذي تحدثت فيه غالبية التسريبات التي نشرت وأذيعت من قبل المحتجزين الإسرائيليين بإيجابية عن حماس التي تصفها إسرائيل بـ”الإرهاب”، كانت كل قصص الفلسطينيين الذين أفرج عنهم سلبية وفي غير صالح إسرائيل، وخرج من استمعوا إلى الروايتين بمقارنات وقناعات تشير إلى قسوة متعمدة من جانب إسرائيل وإنسانية متعمدة أيضا من جانب حماس، وكل فريق سعى نحو توصيل هذه الرسالة عن قصد.

أرادت إسرائيل تأكيد عدم تهاونها مع من تعتقد أنهم يمارسون عنفا ضدها أو يتبنون أفكارا مناهضة لسياساتها وأن سجونها مفتوحة للفلسطينيين ولن تكون نزهة لمن يقعون في الأسر من النساء والأطفال، والرجال والمقاومة بالطبع، وسوف تواصل تشددها في التعامل مع الجميع وتصدر دوائرها الأمنية والقضائية أحكاما قاسية ولمدد طويلة تصل إلى مئات السنوات وهي تعلم استحالة تطبيقها وتكتفي برمزيتها.

بينما سعت حماس إلى تغيير الصورة النمطية التي روجت لها إسرائيل والمتعلقة بدمغها بالعنف، فلجأت إلى احتواء الأسرى بدرجة مبالغ فيها أحيانا، وكانت قصص بعضهم دالة على أن الحركة تتمتع بخصال إنسانية بلا حدود.

ورغم حجب إسرائيل الكثير من السرديات التي حملها محتجزوها لدى حماس، غير أن ما نشر منها وذاع صيته ينطوي على دلالة كافية بشأن حُسن معاملة المقاومة لهم وحمايتهم، مقابل عنف مفرط في تعامل إسرائيل مع الأسرى الفلسطينيين.

حملت الليونة والعنف الكثير من المعاني في الحرب التي عادت إلى ضراوتها، الجمعة، ولعل صفقة تبادل الأسرى التي تعثرت بكل ما حملته من إشارات إنسانية، كانت مكوناتها العسكرية والسياسية حاضرة في كثير من تطوراتها وكواليسها، وهو ما ظهرت تجلياته في اعترافات البعض من المفرج عنهم من الجانبين.

ولفت غالبية الفلسطينيين، من النساء والأطفال الذين جرى فك أسرهم، إلى أنهم فقدوا الأمل في الخروج من سجون الاحتلال وأبدوا امتنانهم للمقاومة الفلسطينية التي أجبرت إسرائيل على الإفراج عنهم، كما أن خروجهم منح أملا لمن لا يزالون قيد الأسر والاعتقال، ما يعني أن الصمود هو الطريقة الوحيدة للتعامل مع إسرائيل، وعكست صيحات الإشادة في بعض شوارع الضفة الغربية بكتائب عزالدين القسام، الجناح العسكري لحماس، إسقاطا مباشرا على أهمية عدم قصر نهجها على قطاع غزة.

وأخفق التطويق الذي فرضته إسرائيل على المفرج عنهم من الفلسطينيين في أماكن مختلفة بالضفة الغربية في حجب رواياتهم عن سجونها، والتي وجدت بعد ذلك أنها لن تتضرر منها كثيرا، لأنها تصب في عملية ترسيخ الانطباعات حول عدم تهاونها مع من ترى أنهم لا يلتزمون بقوانينها، وإذا كانت أفرجت عن العشرات مقابل إفراج حماس عن عدد أقل منهم، فالمخزون المتوافر لديها كبير، وتستطيع أسر المئات يوميا.

وبلغ عدد من اعتقلتهم إسرائيل منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي نحو ثلاثة آلاف، ما يجعل المتاجرة السياسية بورقة الأسرى في غير صالح الفلسطينيين بالحسابات المادية المباشرة، فإسرائيل بإمكانها اعتقال المئات والآلاف كل يوم، في حين تحتاج المقاومة الفلسطينية إلى سنوات طويلة لعملية جديدة داخل إسرائيل.

لكن نظرة حماس الرمزية والسياسية الكبيرة تقلل من هذا المفهوم، حيث ترى أن استجابة إسرائيل أو رضوخها لمبدأ الصفقة والتبادل يوحي بضيق الخيارات أمامها.

وأكدت اعترافات أسرى ورهائن إسرائيل لدى حماس أن الأخيرة تملك من أدوات القوة النسبية ما يساعدها على إحراج الأولى داخليا وخارجيا، إذ أرخت بعض القصص التي جاءت على ألسنة المفرج عنهم بظلال قاتمة على حكومة الحرب التي يقودها بنيامين نتنياهو، وزادت من الضغوط عليه عندما تبيّن أن الآلة العسكرية التي أفرط جيشه في استخدامها على مدى سبعة أسابيع غير قادرة على تحرير هؤلاء، وخروجهم أتى فقط عبر صفقة مع حماس التي وعد نتنياهو بمحوها من على خارطة غزة.

قد تكون ورقة الأسرى حاسمة في مسيرة الحرب في الأيام المقبلة، فمع تمكن المقاومة من الصمود والرد على الجيش الإسرائيلي وإيقاع خسائر مادية وبشرية في صفوفه، يمكن أن تعود تل أبيب إلى طاولة التفاوض التي لا يزال يراهن الوسطاء (مصر وقطر والولايات المتحدة) على استمرارها لأجل عقد هدنة جديدة وصولا إلى وقف إطلاق النار في غزة، فالحرب المفتوحة ولمدى زمني طويل لا أحد يضمن تطويقها.

وعكست الحكايات المفعمة بالمرارة التي حكاها من أفرج عنهم من سجون إسرائيل مشاعر ورؤى سكان الضفة الغربية، والقصة الوحيدة التي تسربت عن معتقلي حماس في طوفان الأقصى وطريقة معاملتهم، تعمد الاحتلال أن تكون حاملة لرسالة نوعية، إذ قيل إن إسرائيل وضعتهم في زنازين مظلمة وفرضت عليهم سماع النشيد الرسمي لإسرائيل، وأسرفت في التنكيل الجسدي بهم، ولم تعبأ بالمعايير الإنسانية والقوانين التي تضع ضوابط لمعاملة الأسرى بعد أن ضرب بها المجتمع الدولي عرض الحائط.

إسرائيل التي مُنحت حق الدفاع عن النفس بلا حدود تعلم أن الروايات السوداء للأسرى لن تحدث تغيرا في الموقف الدولي، وأن الروايات البيضاء لمحتجزيها عن حماس لن تؤدي إلى إسباغ صفات إنسانية على حركة أخرجتها الكثير من القوى الدولية من خندق مقاومة الاحتلال ونزعت الشرعية عن عملياتها وحشرتها في زاوية “الإرهاب”.

ومن المبكر توقع المزيد من تفاصيل الاحتجاز والقصص المؤثرة فيها، فالعناصر الأكثر أهمية الواقعة في الأسر وهم القدامى من الفلسطينيين، والضباط والجنود من الإسرائيليين، لا تزال حكاياتهم محجوبة حتى الآن، فقد تكون سرديات هؤلاء أشد تأثيرا، وربما تغير في ملامح الصور والانطباعات المتناثرة التي خرجت للرأي العام، فالحرب تتغير سخونتها يوميا، صعودا أو هبوطا، وبآنية يمكن أن تجعل السرديات جزءا حاسما في وتبريراتها، خاصة حال استمرارها فترة طويلة.

لا يعتمد من يراقبون مسارات الحرب وصفقات الأسرى على روايات المفرج عنهم عندما تكون المعارك مشتعلة، ويفضلون التمهل حتى تضع الحرب أوزارها، لأن الأحاديث التي تخرج في خضمها تظهر بصورة عاطفية ولو حملت في أحشائها بانوراما عامة وشكلا مبدئيا كاشفا عن بعض المكونات الحاكمة لدى كل طرف، فهي في النهاية ليست كافية للخروج بنتائج قاطعة حتى لو كانت مؤلمة في الحالة الإسرائيلية، وإنسانية في الحالة الحمساوية.