تركيا باتت أقل تسامحا وأكثر انغلاقا..

"دبلوماسية المساجد" ورقة أردوغان لاستعداء المسيحيين وتقويض تركيا العلمانية

الرئيس التركي قد يكون بتحويله كنيسة ثانية إلى مسجد تجاوز حدودا جديدة قد تساهم في ترميم علاقته بالناخب، لكن العلاقات مع الغرب ستتغير أيضا، لكن ليس إلى الأفضل.

إسطنبول

ينظر على نطاق واسع إلى توظيف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للمقدس على أنه جزء من أجندة سياسية داخلية لتثبيت قاعدته الانتخابية التي تراجعت بشكل ملحوظ مع بداية غير موفقة لعهدته الرئاسية الأخيرة، لكن ذلك ليس السبب الوحيد لتنشيطه “دبلوماسية المساجد” مقابل الكنائس، فاستعداء العالم المسيحي والرغبة في تقويض مبادئ تركيا العلمانية أحد أبرز الأهداف على المدى المنظور.

أمر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتحويل متحف ثان، كان في الأصل كنيسة إلى مسجد، في خطوة تعكس تحولا جوهريا سيغير من نظرة العالم المسيحي إلى تركيا العلمانية كما أسسها أتاتورك، فالبلاد تحت قيادة الإسلاميين باتت أكثر تطرفا وأقل انفتاحا وتسامحا تجاه المشترك الحضاري.

ويأتي قرار تحويل متحف كاريه إلى مسجد، بعد شهر على قرار مماثل مثير للجدل يتعلق بموقع آيا صوفيا المدرج على قوائم التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو)، الذي أثار حملة واسعة النطاق من التنديد والاستياء.

وتاريخ هذا الصرح التاريخي المبني قبل ألف عام، يعكس تاريخ آيا صوفيا المجاورة له على الضفة الغربية من “القرن الذهبي” في الجانب الأوروبي من إسطنبول. وكنيسة “المخلص المقدس في خورا” كانت كنيسة بيزنطية من القرون الوسطى تحتوي على لوحات جدارية تمثل “الدينونة” لا يزال يثمنها العالم المسيحي.

وتم تحويل الكنيسة إلى مسجد كاريه بعد نصف قرن على سقوط القسطنطينية عام 1453 على أيدي العثمانيين، ثم أصبحت متحف كاريه بعد الحرب العالمية الثانية في إطار جهود تركيا لإقامة جمهورية جديدة أكثر علمانية على أطلال الإمبراطورية العثمانية.

وبعدها ساهمت مجموعة من مؤرخي الفنون الأميركيين في ترميم الفسيفساء الأصلية للكنيسة، وافتتحت للعامة في 1958، لكن أردوغان في السنوات القليلة الماضية بات يركز أكثر على المعارك التي أدت إلى هزيمة بيزنطة على أيدي العثمانيين.

ضربة مزدوجة

 

يتساءل مراقبون عن جدوى تحويل كنيسة إلى مسجد في مدينة إسطنبول التي تحتضن 3 آلاف و269 مسجدا. هل القرار نصرة للإسلام والمسلمين كما يروج الإسلاميون الأتراك أم أنه تجسيد للأحقاد التاريخية وتقويض ممنهج لأسس الدولة العلمانية؟

وانتقد غارو بايلان النائب المعارض في حزب الشعوب الديمقراطي (الموالي للأكراد) الخطوة بالقول “تمت التضحية برمز آخر في تاريخ بلادنا المتعددة الثقافة”.

وتثير ادعاءات الإسلاميين الأتراك بدرجة أولى تساؤلات حول الأسس الفقهية التي تم الاعتماد عليها لاتخاذ مثل هذا القرار، فأماكن العبادة المسيحية محمية في الدين الإسلامي. وبناء على ذلك لا يمكن اعتبار الخطوة نصرة للإسلام، فالإسلام في تركيا ليس في خطر حتى ننصره.

وترى المؤرخة المتخصصة في تاريخ الإمبراطورية العثمانية زينب ترك يلماظ أن هناك إرادة لمحو آثار الحضارة المسيحية بوضع اليد على موقع كنسي كان جزءا سابقا من الإمبراطورية التي كان الأتراك يسيطرون عليها.

ويشكل القرار أيضا في رمزيته ضربة للعلمانية عند سلفه مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة وهو نفسه الذي اختار التحول إلى الأبجدية اللاتينية لكتابة اللغة التركية على حساب الحروف العربية، وقرر تحويل الكنائس إلى متاحف، كـ”هدية للإنسانية” وكنقطة تلاق بين الشعوب والأديان. وبالتالي فإن خطوة أردوغان ليست انتصارا رمزيا على المسيحيين فقط، بل هي أيضا انتصارٌ على العلمانية.

وقالت مجلة فورين بوليسي الأميركية إن تدمير تراث تركيا الأرثوذكسي الإسلامي المزدوج، كما هو الحال بالنسبة لرغبة أردوغان في إعادة تحويل الكنائس إلى مساجد، سيكون ضربة للتعددية الدينية والتسامح في البلاد، فيما نشرت منظمات مثل المعهد الهيليني الأميركي مرارا وتكرارا حقيقة أن تركيا تمحو تراثها الديني والثقافي من خلال قمع حرية الأقليات الدينية في العبادة.

تحويل الكنائس إلى مساجد ليس انتصارا رمزيا على المسيحيين فقط، بل هو أيضا انتصار على العلمانية في تركيا

وتعتبر كولوري، وهي أستاذة التاريخ المعاصر في جامعة بنتيون في أثينا، أنّ “لهذا القرار رمزية خاصة وهو يفيد بكونه أداة ضغط على أوروبا حيث يمثّل التنازع بين المسيحية والإسلام عاملا بارزا في الهوية الأوروبية”.

وتقول إنّ سيطرة العثمانيين على القسطنطينية في القرن الـ15 شكّلت “قطيعة في تاريخ أوروبا التي كانت تمثّل العالم المسيحي، وهذا اعتقاد يتواتر في اللاوعي الجماعي”.

وعلى مدى 17 عاما في السلطة، غير أردوغان وجه تركيا الحديثة، ونزع أقفال الحظر على الحجاب في الأماكن العامة، ورفع لواء الدفاع عن التعليم الديني وبنى الآلاف من المساجد في جميع أنحاء البلاد. وفي الوقت الذي استبقى فيه الدستور العلماني، الذي صاغه مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، يبدل أردوغان شكل الحياة في البلد الذي كان يقوده أتاتورك قبل نحو قرن من الزمان.

وبحسب ما تظهر بيانات مديرية الشؤون الدينية، بنت تركيا 13 ألف مسجد منذ تولي أردوغان السلطة، ليصل الإجمالي إلى 89259 في العام  2019.

ومن بين هذه المساجد جامع تشامليجا الأكبر في تركيا والذي تم افتتاحه رسميا في العام الماضي على غرار التصاميم الكلاسيكية للمهندس العثماني الشهير سنان. ويطل المسجد على مضيق البوسفور من قمة تل على الجانب الآسيوي من إسطنبول. وتوضع اللمسات الأخيرة على مسجد آخر كبير في ساحة تقسيم بوسط إسطنبول، فيما يضفي صبغة دينية أشد وضوحا على حي يقف فيه نصب تذكاري لأتاتورك.

شعبية متآكلة

 

يرى العديد من الخبراء أن الرئيس التركي قد يكون بتحويله كنيسة ثانية إلى مسجد تجاوز حدودا جديدة قد تساهم في ترميم علاقته بالناخب، لكن العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة ستتغير أيضا، لكن ليس إلى الأفضل.

وأصبح لا يخفى على أحد أن قرار تحويل الكنائس إلى مساجد هو قرار سياسي بامتياز، يسعى أردوغان من خلاله لتحصين نفسه في أي انتخابات قادمة في تركيا، سواء كانت مبكرة أو في موعدها في 2023.

وعكس استطلاع رأي حديث حالة غضب واستنكار الشعب التركي من ممارسات أردوغان وحزبه العدالة والتنمية الحاكم، ممّا سيؤثر سلبا على شعبيته في الانتخابات المقبلة.

وكشف استطلاع للرأي، أجرته شركة “أوبتمار” للدراسات واستطلاعات الرأي، انهيار شعبية الرئيس التركي، حيث بلغت نسبة الرافضين لترشحه لولاية رئاسية جديدة 45.1 في المئة فيما استقرّت نسبة المؤيدين عند 40 في المئة وفق موقع “بولد ميديا” التركي. وأجرت الشركة استطلاعات الرأي، خلال الفترة من 10 إلى 12 أغسطس الجاري، بمشاركة ألفين و121 شخصا من 26 ولاية مختلفة.

وردّا على سؤال “هل ستصوّتون للرئيس رجب طيب أردوغان إذا أجريت انتخابات اليوم؟” قال 40.1 في المئة من المشاركين “نعم”، فيما قال 45.1 في المئة “لن نصوّت”، بينما بلغت نسبة المترددين 14.8 في المئة. وأوضحت نتائج الاستطلاع كذلك النسب التي سيحصل عليها المتنافسون، إذا ما جرت جولة إعادة للانتخابات الرئاسية، وفشل أيّ منهم في حسم الانتخابات لصالحه من الجولة الأولى.

ووفق النتائج، جاء أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، المنتمي لحزب الشعب الجمهوري، كأكبر منافس لأردوغان يمكنه خوض جولة الإعادة معه، حيث من المتوقع أن يحصل على 36.8 في المئة من الأصوات، مقابل 45.1 في المئة لأردوغان، أمّا نسبة المترددين بين الطرفين، فتبلغ 18.1 في المئة.

وتُعتبر هذه النسب التي حصل عليها أردوغان انهيارا ملحوظا في شعبيته، لاسيّما أنه كان قد حصل على 52.59 في المئة في الانتخابات الرئاسية التي شهدتها البلاد في يونيو 2018. وأظهرت العديد من استطلاعات الرأي، التي جرت مؤخرا، انهيارا بشعبية أردوغان وحزبه، ما دفع كافة المراقبين إلى توقع نهاية الحزب مع أوّل استحقاق انتخابي تشهده البلاد.