سؤال العصر الرهيب..

أتتزوج متبرجة؟

"أرشيفية"

سعد القرش

كلمة “الرهيب” في عنوان المقال صفة لهذا العصر وللسؤال أيضا. أما مصطلح “المتبرّجة” فلم أعثر على بداية تاريخ إطلاقه، كما لا أعرف مثلا متى بدأ استخدام لقب “آنسة” القرين بالآنسة مي زيادة. وقد أدى الإلحاح السلفي الإخواني، خلال الخمسين سنة الأخيرة، إلى شيوع كلمة “التبرّج”، ووصم “المتبرّجة” في العرف العام بأنها معيبة عاصية، مسلمة إلا قليلا أو كثيرا، حتى أن الألسنة تألف الكلمة الآن كاستثناء اجتماعي وإيماني لا يثير الغرابة. ولم يكن غريبا أن يُلقي د. محمد الشعلان في نهر تويتر بسؤال، تضمنته تغريدة في 22 نوفمبر 2020 من كلمتين “أتتزوج متبرجة!؟”، بترتيب تتقدّم فيه علامة التعجب على أداة الاستفهام.

في تعريف الرجل بنفسه “دكتوراه في الدعوة إلى الله من جامعة أم القرى، إمام وخطيب جامع السنابل، مأذون أنكحة”. لننسَ “الأنكحة”، ولنتأمل تغريدة حظيت بالمئات من الإشادات وإعادة التغريد، فتحمس “الدكتور” للتعليق في اليوم التالي بتغريدة شارحة “التغريدة من كلمتين فقط. لكنها كشفت بجلاء أن المجتمع ولله الحمد في قمة عافيته الأخلاقية وأنه لا يرضى الأخلاق الدخيلة على المجتمع والتي تخالف أول ما تخالف تعاليم الإسلام. أما القلة القليلة جدا، فنسأل الله تعالى لهم الهداية وأن يعينهم على تجاوز عقبات الهوى والشيطان”. وأتساءل: أليس غريبا ألا يتسلل الشيطان إلى المسلمين إلا عبر شعر المرأة؟ آخر ثغرة للاختراق، وبتحصينها يكتمل إسلامهم.

تكشف التعليقات ما وقر في نفوس عموم المسلمين الطيبين، وقد أورثهم المشايخ فكرة الخوف على الدين، وشغلوهم بأوهام وسفاسف؛ لإلهائهم عن التفكير وطرح أسئلة عن تحالف رجال الدين مع الاستبداد، وتخاذلهم فلا يقربون تحديات عصرهم، وكان الشيخ محمد الغزالي يسخر من طلاب جامعيين لا يكرسون أوقاتهم للعلم، ويلحّون عليه بأسئلة فقهية تفصيلية، سمّاها ساخرا “فقه دورة المياه”، وهو فقه يجيده وعّاظ يأمرون الناس بالسمع لوليّ الأمر، “ولو تأمّر عليكم عبدٌ حبشي”، ويوصون الفقراء بالزهد، ويذكّرونهم بحرمة شقّ عصا الطاعة، وحرمة لبس الرجال للذهب والحرير. ومن هؤلاء الوعّاظ من يقتني سيارة ثمنها أكثر من مليون جنيه، والمهم ركوبها شرعيا بالرجل اليمنى.

ما رسخه الأداء الدعوي السلفي الإخواني نحصده متمثلا في يقين البسطاء بأن الحجاب هو الركن الثاني بعد الشهادة. والتعليقات على سؤال “أتتزوج متبرجة؟” ترسم صورة قاتمة، في عمقها يرون من يسمونها المتبرجة “أشرّ النساء”. والمسكوت عنه في وصف “أشرّ النساء” أن النساء شرّ على الإطلاق، ولكن “المتبرجة” أكثر شرّا. أجاب أحدهم عن سؤال مأذون الأنكحة “لا يمكن يا شيخ ولو يعطونا هي بالمجان. نحن نريد من يعيننا على طاعة الله وذكره ومربية صالحة للأجيال فمثل هذه بالروح تؤخذ”. وأجاب آخر “لا وألف لا. من ضيعت دينها وعاداتها لن تحفظك في بيتك وأولادك”. إجابات تضع الحجاب مكان الدين، وتجعل المرأة سلعة.

تسليع المرأة هو تفريغ لها من أي معنى، وسلبها حقها في كونها شقيقة للرجل، وتبلغ المكانة التي تؤهلها لها موهبتها

تسليع المرأة هو تفريغ لها من أي معنى، وسلبها حقها في كونها شقيقة للرجل، وتبلغ المكانة التي تؤهلها لها موهبتها. وتعمى الأبصار والبصائر عن نساء يحكمن بلادا تؤوي مسلمين من ضحايا الاستبداد في العالمين العربي والإسلامي. اليقين الذكوري يتجاهل الحكم الرشيد لنساء غير مسلمات. وإذا كان التسليع الفقهي الموروث لجسد المرأة يحجبه، فبالإمكان اعتباره الوجه الآخر للتسليع الحداثي للجسد بتعريته والاتجار به. أحدهم عبّر عن خطاب سلفي عمومي يقول “سواء كانت المرأة مسلمة أو غير مسلمة، المتبرجة تكرهها نفس الرجل صاحب الفطرة السليمة السوية. والزوجة العفيفة بالنسبة له كالجوهرة ليست رخيصة ومعروضة للجميع ومستحيل أن يفرط فيها لأنها غالية ونادرة”.

يشيع خطاب التسليع فيبتذل، ويحلو لعموم الناس ترديده. علّق أبوعبدالله “يحفظ الله بناتنا وبنات المسلمين من شر الأشرار وكيد الفجار. ما أعتقد أحدا عنده غيرة يرضى بالمكشوفة الرخيصة”. ويرد آخر “يا دكتور مستحيل مستحيل آخذ حلوى مكشوفة”. وتمتد الروح الذكورية إلى النساء، في أسوأ تمثيلات إعادة إنتاج قهر مقهورات بأيدي مقهورات. أجابت امرأة عن سؤال دكتور الأنكحة “والله نكرهها نحن النساء فكيف بالرجال؟”. وأجابت امرأة مغربية “من عصت أمر خالقها حريٌّ بها عصيان أمر زوجها! لا أرضاها زوجة لزوجي ولا لابني ولا لأحد من أحبابي”. وفي إجابة المغربية وصاية على الابن والأحباب والزوج؛ فلا ترضى “المتبرجة” زوجة ثانية لزوجها.

لعل بعضا من هذا الفقه البشري إلهائي انتقائي انتفاعي؛ لتشدده في رسم حدود “عورة” المرأة المسلمة إذا كانت زوجة، وتساهله مع غيرها من النساء وخصوصا غير مسلمات، فهن مستباحات للعيون. وإذا أتيحت لأصحاب هذا الفقه جارية، في نوبة ردّة حضارية بعد تحريم العالم للرق، فلا عورة لها ولا احترام لآدميتها، مع أن القرآن ينص على أن الله كرّم “بني آدم”. ولكنهم بهذا التسليع لجسد المرأة المسلمة، الحرة لا الأمة، يكونون ضحايا ثقافة استهلاك الأجساد والسلع وفائض التكنولوجيا، واستهلاك الاجتهادات المرهونة بزمانها. وكان عمر بن الخطاب رائدا وسباقا إلى الاجتهاد، فأبطل سهم “المؤلفة قلوبهم”، ويوجد الآن من يتكلم عن أهل الذمة.

هناك قضايا تُفزع المؤسسات الدينية، والمستقبل كفيل بهذه القضايا وبالمؤسسات أيضا. ورثنا تحريما تاريخيا لولاية المرأة في الرئاسة والقضاء وإمامة الصلاة، ثم شهد العالم الإسلامي رئاسة المرأة وقضاءها دون وقوع كوارث. وفي أوروبا مرّت بسلام إمامة امرأة لصلاة يشارك فيها رجال ونساء، وإذا امتعض معترض قيل له: ما دام الرجال والنساء يتجاورون في الأسواق والطواف ببيت الله، فما الضرر في تجاورهم أمام الله؟ وفي كوبنهاجن شيدت شيرين خانكان، وهي سورية فنلندية، “مسجد مريم” لإتاحة صلاة الجمعة للنساء، وتطمح إلى تأهيل نساء في العالم الإسلامي للإمامة. وفي مصر قامت القيامة لقول أستاذة للعقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر بجواز زواج المسلمة من مسيحي، فلنتظر.