الإرث المادي والعمراني والتنظيمي..
شاهد أجمل مدن الجزائر وأشهر شوارعها مما تركته فرنسا

كل هذا الموروث العمراني الجميل من المدن والقرى هو غنيمة حرب التحرير
على استحياء ترتفع من حين إلى آخر أصوات في الداخل الجزائري، من أجل اختراق الإجماع الحاصل حول سوداوية الحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر (1830 - 1962)، وتحاول تسويق جانب آخر من الظاهرة الاستعمارية خلال القرنين الماضيين، فتعتبرها أحد عوامل وضع البلاد على خط الانطلاق نحو المدنية والتجديد، لولا الذهنية والخطاب الشعبوي الذي مسح كل ما هو فرنسي، بما فيه الإرث المادي والعمراني والتنظيمي.
وأوضح علي لدروز، وهو واحد من عائلة كبيرة عرفت بموالاتها لفرنسا خلال ثورة التحرير، في حديثه لـ”العرب”، أسباب وخلفيات انخراط عائلته الكبيرة في موالاة فرنسا، رغم الإجماع الشعبي والرسمي على معاداتها. ويعزو ذلك إلى أن دولة الاستقلال أضاعت فرصة حقيقية خلفها الاستعمار الفرنسي للانطلاق نحو دولة الحداثة والتجديد.
وتابع متسائلا “هل استطاعت دولة الاستقلال أن تشيد مدينة على مدار ستة عقود.. أو أشهر الشوارع في العاصمة”، لافتا أن “أجمل المدن الجزائرية هي التي أنجزتها فرنسا”.
وطالبت الجزائر مرارا باريس بالاعتراف رسميا بجرائم الاستعمار، وحل ملفات مرتبطة باستعادة الأرشيف وتعويض الضحايا، وفي الآونة الأخيرة أثار تقرير مؤرخ فرنسي حول حقبة استعمار، انتقادات واسعة وحالة من الغضب الشديد في صفوف الجزائريين، واعتبره البعض أنه “تلاعب بالمراجع التاريخية”.
مع ذلك يرى لدروز أن الماضي الاستعماري ليس بهذه القتامة، كما أن الكثير من منتقدي باريس لا يترددون في زيارتها، وعلى العكس يتزاحمون أمام قنصلياتها.
الجزائريون وضعوا أيديهم على هذه الغنيمة من المدن والقرى الجميلة، التي أقامها الاستعمار الفرنسي على مدى 132 سنة من وجوده على أرض الجزائر، بثقافة تقليدية غير متماهية مع فلسفتها وجمالياتها
ويبين بالقول “في الظاهر الجميع يعادي فرنسا ويتشدق بخطاب الوطنية والثورة، لكن في الباطن من أكبر مسؤولين في البلاد إلى أدناهم يملكون عقارا أو حسابا في فرنسا”.
وتابع “الذي تضيق به الأوضاع يفر إلى فرنسا، وحتى أبسط الناس يتزاحمون أمام القنصليات للفوز بتأشيرة.. ما معنى هذا؟ أليس انبهارا يفوق الحدود، ألا يترجم ذلك ندما على خروج فرنسا؟ ألم تستنسخ الدولة الوطنية منظومتها التشريعية من النظام الفرنسي في نسخة كربونية؟”.
وجذور الصوت البراغماتي تجاه الوجود الفرنسي في الجزائر ليست وليدة اليوم، وإنما تعود إلى عقود غابرة، ولعل المأثور الجزائري يحتفظ إلى حدّ الآن بما يترجم ذلك، فيقال في اللسان الشعبي “الفار ما يدير عولة والعربي ما يبني دولة”. (الفأر لا ينجز خزانا غذائيا، والعربي لا يبني دولة)، وارتبط ترديده في الجزائر بفشل الدولة الوطنية في استخلاف النظام الفرنسي.
ويتردد أيضا “إذا وقف حبل الديس، يوقف حبل الثورة”، ويعكس تشاؤم هؤلاء حول نجاح الثورة في إقامة دولة حديثة تضاهي النظام الفرنسي، ويقارنونه بحبل “الديس”، وهي نبتة تصنع منها الحبال التقليدية، ولأنه يستحيل استقامة الحبل بكل القوانين الفيزيائية والتركيبية، فإن القول المأثور عبّر عن تحدّ أو استحالة.
ومنذ دخول فرنسا إليها في يونيو 1830 إلى غاية الآن، هناك من الجزائريين ممن رحبوا بالوافد أو بالنظام المستجد في البلاد، ولأسباب متعددة تفرقت بين المصالح الشخصية وبين الانبهار بحضارة الغرب وبإمكانية الاستفادة من أحد نماذج النهضة الحضارية الأوروبية، ظلت تلك الأصوات مقربة ومنبهرة بالتواجد الفرنسي في بلادها، ولو أخذت تجليات مختلفة على مر العقود.
وقال الأديب والروائي الجزائري أمين الزاوي في أحد مقالاته، “لقد ورثت الجزائر عشية الاستقلال يوليو 1962 من الاستعمار الفرنسي أكثر من 40 مدينة من أبهى المدن، وعشرات المئات من القرى الجميلة، بعد أن غادرها الفرنسيون والأوروبيون”.
وأضاف “هي مدن على الشاطئ وفي الهضاب العليا وفي الصحراء، رأسمال عمراني حضاري لا يقدّر بثمن، جواهر عمرانية بهندسة خارقة في الجمال، مدن لم تكن تختلف عن باريس ومرسيليا وبوردو ونيس وغيرها، من حيث الهندسة العمرانية البديعة ومختلفة المدارس، لقد كان هذا الموروث العمراني كافيا لأن يجعل من الجزائر المستقلة بلدا معاصرا ومتطورا ومنافسا للكثير من البلدان الأوروبية.. القاعدة المادية حاضرة بالإقلاع، لم يبقَ سوى الانطلاق المدروس”.
ويصف المشهد بالقول “لقد فقدت المدينة الجزائرية، شأنها شأن المدن العربية والمغاربية القديمة منها والجديدة، قيم المدينة، فقدت ذاكرتها، أرصفتها، بلكوناتها (شرفاتها)، لغتها وساكنيها، لقد فقدت المدن الجزائرية عقلها الباطني والظاهري، الفوضى، الإهمال والترقيع.. فقدت المدينة هويتها، حتى أصبحت تشبه لا شيء أو تشبه دشرة (قرية) بكثافة سكانية غريبة ومتصاعدة، مع كامل التقدير للدشرة الأصيلة، ولأهلها المعتصمين بقيمهم”.
واعتبر الزاوي أن “كل هذا الموروث العمراني الجميل من المدن والقرى هو غنيمة حرب التحرير، هو فخر نتائج الثورة العظيمة التي انطلقت ما في ذلك شك، لكن بعقلية قروسطية، حيث تقاسم الخارجون من الثورة هذه الغنيمة على الطريقة التي كانت تقسّم بها غنائم حرب الفتوحات الإسلامية الأولى!”.
وتابع “لقد وضع الجزائريون اليد على هذه الغنيمة من المدن والقرى الجميلة التي أقامها الاستعمار الفرنسي الاستيطاني على مدى 132 سنة من وجوده على أرض الجزائر، لكن بثقافة مختلفة عن التي عليها ولها تأسس هذا العمران المدهش، وضع الجزائريون يدهم على هذه الغنيمة من المدن بثقافة تقليدية غير متماهية مع فلسفتها وجمالياتها”.
ويلمح الأديب المثير للجدل بسبب مواقفه وانتقاداته للموروث الحضاري والديني، إلى “فشل الدولة في تحقيق الإقلاع والتطور والاستفادة من الإرث العمراني والحضاري الذي تركته فرنسا بعد خروجها من البلاد، وهيمنة ثقافة بدائية لم تستطع الحفاظ على ما هو موجود، أما البناء والتشييد فحدث ولا حرج”.
وتؤكد الحقب التاريخية أن ارتباط جزء من الجزائريين بفرنسا ليس وليد اليوم أو عقود مضت، بل يعود إلى بدايات ومنتصف القرن الماضي، لمّا كانت أحزاب جزائرية وشخصيات نضالية تطالب بتحقيق شروط المواطنة والبقاء مع فرنسا، في إطار ما كان يعرف بـ”التيار الاندماجي”، بقيادة المناضل الراحل فرحات عباس.
وتدثر بعد الاستقلال بثوب “التيار الفرانكفوني”، الذي لا يتورع في الولاء والارتباط بفرنسا كمنظومة لغوية وحضارية وفكرية واقتصادية، مستفيدا من فشل الدولة الوطنية في تحقيق الإقلاع المنشود، للإشادة بما أتاحه التواجد الفرنسي في بلاده من فرص التطور والعصرنة وتثمين الإرث الذي تركته في مجالات العمران والزراعة والبنى التحتية والقاعدة الصناعية.
وبرأي لدروز، فإنه “لا يجب أن نحجب حالة الندم على ضياع فرصة الاستفادة من الإرث الفرنسي في مختلف المجالات”، متسائلا “صانعو الإجماع المعادي هم يتسابقون على فرنسا، فلماذا أرغموها على الخروج أصلا إذن؟”.
ويخلص بالقول “مظاهر الانبهار بالتطور والعصرنة الفرنسية لم تتوقف إلى اليوم، وفيما أرست دولة الاستقلال نظاما رديئا ومتخلفا، تعتبر باريس أكبر وجهة للجزائريين والجالية الجزائرية في فرنسا هي الأكبر (5 ملايين)، ولا يتأخرون في الاستفادة من أي مزايا تقرها القوانين الفرنسية خاصة في المجال الاجتماعي، لأنهم يجدون من يتفاعل معهم حتى ولو كتب رسالته بأرجل الدجاجة، بينما مؤسساتهم تغلق الأبواب في وجوههم وتطمس لهم حقوقهم حتى الأساسية منها”.