د. هيثم الزبيدي

نهاية عصر المنح المجانية السعودية لمصر والأردن

زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لمصر والأردن وضعت نقاطا على حروف: السعودية ليست بصدد تقديم منح مالية لأحد بعد الآن. ينبغي العثور على صيغة لدعم البلدين، وغيرهما من البلدان المتضررة ماليا من أزمة وباء كوفيد وحرب أوكرانيا، ولكن معادلة “المال مقابل لا شيء” انتهت الآن.

من الضروري تشخيص الوضع المالي للسعودية مقدما. ربما كانت الأشهر الماضية أفضل أشهر في عوائد الريع النفطي في تاريخ السعودية. ثمة وفرة مالية كبيرة لأن الإنتاج النفطي يقترب من ذروة القدرة على الإنتاج، وسعر برميل النفط في ذرًى أخرى ولوقت طويل. الرياض اليوم، بحسبة بسيطة، تجني على الأقل مليار دولار يوميا من مبيعات الخام. لإدراك حجم عائد بهذا المستوى، يمكن أن نجري مقارنة مع مفاوضات طويلة وصعبة تجاوزت السنة لحصول تونس على قرض من صندوق النقد الدولي بمقدار 4 مليارات دولار. لكن السعودية ليست بلد الخام فقط، بل بلد المشتقات النفطية الكثيرة والغاز والعديد من المواد الأولية. وهي بلد لديه الكثير مما يقوله في الصناديق السيادية المحلية والعالمية التي تدرّ على ميزانية الدولة عائدات كبيرة. زد على ذلك أن الدعوات لتقييد الإنتاج تبخّرت تماما مع اندلاع الحرب في أوكرانيا. المطلوب من السعودية أن تضخ المزيد من النفط، بل وأن تقنع حلفاءها في أوبك+ بفعل نفس الشيء. هذا المطلوب هو ما سيحمله الرئيس الأميركي جو بايدن في زيارته القادمة إلى السعودية.

الخلاصة، أن السعودية لا تعاني من أزمة سيولة ممكن أن تجعلها مترددة في تقديم العون المالي كما كانت تفعل من قبل. لو أرادت تقديم المنح، فهذا أسهل وقت في توفر السيولة. النظرة إلى العلاقة مع دول الجوار ضمن سياق ماذا تقدم وماذا تأخذ بالمقابل هي ما تغير.

عندما كان الاستقرار مهددا في مصر بعد انهيار حكم الإخوان، بادرت السعودية والإمارات والكويت بضخ أموال في ميزانية الدولة المصرية. ضمنت هذه الأموال وضعا انتقاليا إلى برّ الأمان. تماسكت الدولة المصرية وصارت بوضع مالي أفضل. لكن مصر بلد من 100 مليون نسمة وأكثر. إلى يومنا هذا لا توجد خطة إصلاح اقتصادي أو طريقة تجعل فيها مصر من نفسها مؤمنة ماليا. الاكتفاء المصري الذاتي أساسا غير مطروح.

التدخل الثاني لدعم مصر جاء عن طريق وضع الودائع الخليجية المالية لضمان منع تذبذب سعر الجنيه وتوفير سيولة. هذه أموال مهمة وصلت في وقت حرج، قبل وأثناء وبعد إعادة تقييم سعر الجنيه المصري. نعرف الآن أنها لم ولن تسحب من مصر، لأن القرار السعودي الأخير هو تحويل تلك الودائع إلى استثمارات. هذه طريقة دبلوماسية للقول أن تبقي الحكومة المصرية على تلك الودائع لصالحها وأن تحولها إلى “استثمارات” من المبكر الحكم على نوعيتها وحجمها. طالما هذه الودائع لن تعود، فالأفضل إعادة تصنيفها.

للاستثمارات العربية حكاية طويلة في مصر. العراق مثلا ضخ مئات الملايين في مؤسسة التصنيع الحربي المصرية في الثمانينات. إلى الآن، لا أحد يعرف ما هو مصير تلك الأموال التي تعادل مليارات بمعايير اليوم. في كثير من الأحيان تتعامل مصر مع الاستثمارات العربية كمنحة. الآن سنرى إلى أين ستوجه الودائع السعودية وغير السعودية، وعن أي عوائد للاستثمار ستجنى.

الرسالة التي أوصلها الأمير محمد بن سلمان للقيادة المصرية بنفسه هو أننا ندعمكم، ولكن يجب النظر للأمر بصيغة جديدة. وهي نفس الرسالة التي حملها إلى محطته الثانية في جولته الإقليمية الأخيرة: زمن الدعم المالي المفتوح للأردن انتهى ولن يعود.

الأردن تعوّد على الكثير من “البلاش”. طوال الثمانينات والتسعينات، كانت حاجاته من النفط تأتي من العراق. نصف الكمية ببلاش والنصف الآخر بنصف سعر السوق. ولأن العقبة كانت منفذ العراق التجاري البديل أثناء الحرب العراقية  الإيرانية، فإن الكثير من الأموال أنفقت لجعل ميناء العقبة بمواصفات تحميل وتنزيل وتخزين عالمية، دفع العراق الكثير من كلفتها. كان هناك أسطول من الشاحنات في شركة عراقية  أردنية مشتركة يقوم بمهمة النقل بين العقبة والعمق العراقي. هذه كلها استثمارات غير واضحة المصير بعد غزو العراق عام 2003.

الدعم الخليجي للأردن ليس بالهيّن. ساعدت الأموال الخليجية عمان على الخروج من أكثر من مأزق مالي على مدى عقود. الحديث عن الفساد في الإدارة الحكومية الأردنية ليس سرا، وأي دولة خليجية تعرف أن الكثير من المال المجاني المرسل يتسرب إلى جيوب لا تستحقه. مقابل هذا المال، كان الأردن الوسيط الاسمي بين العرب وإسرائيل. هذا كان دوره الإقليمي الذي تبدد الآن.

لا يوجد سجل مؤكد للاستثمارات الخليجية في الأردن ومصيرها. لكن بعض الحوادث كانت مؤشرا لنظرة الأردن للاستثمارات. قضية سيارات الأجرة لمستثمر كويتي معروفة. بعد أن أتم كل شيء، تغيّرت التعليمات وكان المشروع سيتحول إلى خسارة. اشتكى المستثمر وتمكن من استعادة بعض من استثماراته من مبلغ الدعم الكويتي السنوي للأردن. هناك أيضا الجدل القانوني حول إدارة المنشآت في ميناء العقبة والتي أقيمت باستثمارات إماراتية. ما إن تم المشروع ووصل إلى مرحلة التشغيل، حتى صار الأردنيون يطالبون بحقهم في إدارته. بالطبع، لا يمكن أن تقلع ميناء تم تشييده وتأخذه معك بعد أن استثمرت فيه.

البيان السعودي الأردني الذي رشح عن زيارة الأمير محمد بن سلمان كان يتحدث في العموميات ولم يشخص أي دعم مالي وترك الإشارة إلى قضية الاستثمار مرتبطة بخطط الأردن المستقبلية. بكلام آخر، لا توجد وعود قطعية في هذا المجال. الوضع المالي في الأردن خطير كما تقول وكالات التصنيف العالمية، ولكن لا يبدو أن ثمة حلولا غير ما يمكن الحصول عليه من قروض من صندوق النقد الدولي والتي ترتبط عادة برقابة على الإصلاحات.

الشركات الاستثمارية والصناديق السيادية الخليجية تدار اليوم بعقلية تجارية بحتة وتنظر إلى العائد. وهذه النظرة ستستمر لأن نوافذ الوفرة المالية التي ترتبط بارتفاع أسعار الطاقة لا تتكرر كل يوم. والاستثمارات الخليجية في مصر والأردن لو أخذت بجدية وبطريقة النفس الطويل وعدم استعجال المنفعة، لكان لها فرصة أن تغير بعضا من معطيات الوضع الاقتصادي في دول العسرة المالية.

يقول الإنجليز “لا يوجد غداء ببلاش”. كان هناك غداء خليجي ببلاش لفترات طويلة. عالم اليوم لا يحتمل مثل هذا البلاش.

مقالات الكاتب